لأكثر من ألف ومائة عام اعتاد المصريون على طقس رمضاني فريد لم يتخلوا عنه طيلة هذه السنين.. موائد الرحمن.
كان أحمد بن طولون أول سلطان يقيم مآدب إفطار رمضانية في مصر خلال فترة حكمه بالقرن التاسع الميلادي، حيث كان يجمع التجار والأعيان في أول يوم من شهر رمضان على الإفطار، ثم يقوم فيهم خطيبا مؤكدا أن الغرض من المائدة تذكيرهم بالإحسان للفقراء والمساكين في شهر الإحسان والكرم.
وفي دراسة أجرتها جامعة الأزهر الشريف، عام 2019، قدّرت عدد المستفيدين من موائد الرحمن في مصر بنحو 3 ملايين شخص يوميا، نصفهم في العاصمة المصرية القاهرة فقط.
تكلّف هذه الموائد نحو ملياري جنيه مصري، يقوم على تنظيمها أكثر من 10 آلاف مؤسسة أو جمعية خيرية، هذا بالإضافة إلى الموائد التي يقيمها رجال الأعمال والمشاهير، كما تشير تقديرات أخرى إلى أن عدد موائد الرحمن في القطر المصري بلغت أكثر من 40 ألف مائدة خلال رمضان عام 1440هـ.
لكن ولأول مرة في تاريخ الأمة الإسلامية تتوقف معظم مظاهر وطقوس رمضان للعام الثاني على التوالي بسبب جائحة “كورونا” التي ألمت بالكوكب الأرضي، فماذا فعل المصريون وكيف تصرفوا في هذه الحالة؟! هذا ما سنعلمه في السطور الباقية.
كعادتهم، تفنن المصريون في إيجاد البدائل والبحث عن الجديد، حيث قرر عدد من فاعلي الخير ومقيمي الموائد الرمضانية تبني فكرة جديدة بديلة لموائد الرحمن في رمضان، عبر تجهيز وجبات الإفطار وإيصالها للمحتاجين في بيوتهم.
وتعتمد الفكرة الجديدة على تجهيز وجبات الإفطار في أكياس أو علب بلاستيكية، وتوزيعها على المحتاجين قبل موعد الإفطار، أو على العابرين الذين لم يتمكنوا من الوصول لبيوتهم حتى وقت الإفطار.
كما انطلقت عدد من المبادرات الشعبية تحت شعارات مثل “خليك بالبيت فطارك هيوصلك”، و”خد فطارك وامشي”، و”يلا نساعد أهالينا”، ليقوم الناس من خلالها بأفضل الأعمال التي أمر الله بها عباده في الإسلام، وكانت أولى وصايا النبي صلى الله عليه وسلم عند وصوله للمدينة المنورة، وهي إطعام الطعام.
لم يقف الأمر عند هذا الحد.. فقد دشنت بعض المطاعم المصرية، خدمة “موائد الرحمن ديلفري”، حيث تتولى تلك المطاعم توصيل وجبات جاهزة إلى منازل الفقراء الذين يحددهم صاحب المائدة (المنفق)، وهي الفكرة التي تفاعل معها الكثير من المصريين الموسرين الذين يرغبون في عمل الخير الحقيقي الذي يصل لمستحقيه دون النظر للمفاخرة بهذا العمل وإقامة السرادقات في الشوارع!
لكن جل اهتمامهم هو نشر الرحمة والتكافل بين أبناء المجتمع الواحد، ووصول صدقاتهم وزكواتهم لمستحقيها من الطبقات الفقيرة، وليس هؤلاء المتسولون على كل مائدة وأمام كل مسجد وحول كل سوق.
وكما كانت جائحة “كورونا” سببا في كشف الكثير من عورات وعوار الجنس البشري، فقد كانت أيضا سببا عظيما في تغيير مسار جذري لموائد الرحمن، والتي تحولت في الأعوام الأخيرة لشكل من أشكال التسول من ناحية المحتاجين، وإلى نوع من التفاخر والتكاثر من ناحية المنفقين والقائمين عليها، ما يخرج الأمر عن كونه قربة وطاعة لله سبحانه وتعالى إلى أشياء أخرى قد تؤدي لبطلان العمل كله، من طلب الرياء والشهرة، ومن إيذاء البسطاء، وتعريض من أمرهن الله بالتستر من النساء والبنات للنزول من بيوتهن، والتسبب في مواقف مهينة ومخزية يتعرض لها الأطفال والصبيان.
وبالعودة لسير الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فهؤلاء العظماء كانت صدقة السر عندهم أفضل بكثير من صدقة العلن، وهذا مصداقا لحديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم “ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه”.
فهذا بيان أن صدقة السر أفضل، وهذا زين العابدين بن علي رضوان الله عليه (ابن سبط رسول الله) كان يحمل جراب الخبز على ظهره ليلا حتى لا يعرفه أحد، ثم يضع منه ما تيسر أمام كل باب من أبواب الفقراء بالمدينة المنورة.
أما الآن وفي زمن “كورونا” وبعد كل تلك الأفكار الإيجابية البديلة لموائد الرحمن، وتلك المبادرات الحسنة لتوزيع الطعام سواء المجهز أو الجاف على منازل البسطاء، وهو أحسن بكثير من إقامة الموائد، وفضلها أعظم لأنها لم تعد بها شبهة الرياء والسمعة، كما أن تلك البدائل سترت الكثير من عورات المسلمين، وأصبح المحتاج لا يضطر إلى الخروج من بيته لينتظر بالساعات الطوال من أجل وجبة رمضانية أو بضعة كيلو جرامات من السكر والدقيق!