كان للصعود الاقتصادي التركي الذي صاحبه خلال العقد الأول من الألفية الجديدة صعود سياسي ودبلوماسي في الشرق الأوسط، أثرٌ إيجابي على علاقات تركيا في المنطقة عموما، وفي الجزائر خصوصا.
وسعت حكومت حزب العدالة والتنمية منذ توليه السلطة في تركيا عام 2002، بقيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، للحفاظ على صورة إيجابية لتركيا خاصة في بلدان المغرب العربي، وفي مقدمتها الجزائر التي يجمعها بها تاريخ مشترك يمتد لمئات السنين.
علاقات سياسية بأبعاد متعددة
لا يمكن النظر إلى العلاقات بين تركيا والجزائر من الجانب السياسي فقط، بل يتعداه إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية، فما زال الجزائريون يستذكرون مساعدة رئيس الوزراء التركي الراحل عدنان مندريس لجيش التحرير الوطني في حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي.
من الناحية الشعبية، فإن لدى البلدين شبه إجماع شعبي ورسمي حول ضرورة تمتين العلاقات بين تركيا والجزائر، ولعل أبرز ما يميز الجزائر أنها لم تلتفت رسميا وشعبيا إلى الحملات التي استهدفت تشويه تاريخ الدولة العثمانية، فهي عانت من الاستعمار الفرنسي، وعايشت قبله فترة الحكم العثماني وتدرك جيدا الفرق بينهما.
مؤخرا شهدت العلاقات السياسية بين البلدين مرحلة نشطة، حيث زار أردوغان، الجزائر مرتين خلال عامي 201 و2020، حيث كان أول رئيس جمهورية يزور الجزائر ويلتقي بالرئيس عبد المجيد تبون بعد انتخابه.
علاوة على ذلك، فإن وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، زار الجزائر في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وفي 5 كانون الثاني/يناير 2020 وهذه الزيارات المتكررة في إشارة لندى أهمية العلاقات بين البلدين.
وتعدى التنسيق السياسي بين البلدين إلى تطور العلاقات الاقتصادية بالاتفاق حول التبادل التجاري الحر بعد هذه الزيارات ووضع أسس علاقات جديدة مبنية على التعاون والتكاتف الاقتصادي والسياسي. حيث شهدت العلاقات التركية الجزائرية تطورا مذهلا خلال الأشهر القليلة الماضية، ليصبح التنسيق بين البلدين سيد المشهد.
وعلى صعيد العلاقات الثقافية وفي مجال التعليم، يربط البلدين تعاون وتنسيق قوي سواء في مجال الأبحاث الأكاديمية أو مجال التعليم، كذلك فإن للغة التركية اهتمام خاص من قبل الجزائريين، الذين بدأوا بتعلمها سواء خلال السفر إلى تركيا من أجل التعليم، أو من خلال مراكز معهد “يونس أمره” التركي في الجزائر.
تعاون اقتصادي في خدمة شعبي البلدين
فيما يخص العلاقات الاقتصادية والتجارية، فقد بلغ حجم التجارة بين البلدين أكثر من 4 مليارات دولار عام 2020.
وتعد تركيا حاليًا خامس أكبر شريك تجاري للجزائر بينما تعتبر الجزائر ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا في إفريقيا.
كما تعد الجزائر رابع مورد للغاز الطبيعي لتركيا (بعد روسيا وإيران وأذربيجان). وقد أعرب الجانبان عزمهما رفع حجم التجارة الثنائية إلى أكثر من 5 مليارات دولار في المستقبل القريب.
وفي مجال الاستثمار، تعد تركيا المستثمر الأول في الجزائر، خارج قطاع المحروقات، بما يربو عن 800 شركة تركية نشطة في الجزائر موفرة بذلك ما يقارب 30 ألف فرصة عمل، باستثمار إجمالي بلغت قيمته أكثر من 3.5 مليار دولار في 2020.
أما بالنسبة للاستثمارات الجزائرية في تركيا، فقد وقعت الشركة الوطنية للمحروقات “سوناطراك”، في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2018، عقدًا مع شركة “رونيسانس” التركية لإنشاء مجمع بتروكيماويات بمنطقة جيهان في ولاية أضنة جنوب غربي تركيا، باستثمار بلغ 1.4 مليار دولار.
وقد جدد الجانبان في هذا الصدد، التأكيد على سعيهما لإقامة شراكات ثنائية مستدامة وتحقيق مزيد من فرص التعاون قائمة على مبدأ المنفعة المتبادلة، بالنظر إلى أن تركيا، كما جاء على لسان رئيسها رجب طيب أردوغان، تعتبر الجزائر شريكا استراتيجيا لها وليس فقط سوقا لتصدير منتجاتها.
على الصعيد الآخر، ومن أجل دفع العلاقات إلى مستويات أقوى، كان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، قد صادق بتاريخ 5 أيار/مايو 2021، على اتفاق الملاحة البحرية مع تركيا، الذي يشمل نقل الركاب والبضائع إلى جانب التعاون التقني في بناء السفن وإصلاحها وتشييد الموانئ.
ويرجع تاريخ توقيع الاتفاق إلى 25 شباط/فبراير 1998 في الجزائر، لكنه لم يدخل حيز التنفيذ بسبب عدم الموافقة عليه من قبل الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، دون إبراز أسباب التأخير.
وفي 18 نيسان/أبريل 2021، أعلنت الرئاسة الجزائرية في بيان، أن مجلس الوزراء برئاسة تبون، صادق على اتفاق للتعاون مع جمهورية تركيا في مجال النقل والملاحة البحرية.
ووفق نص الاتفاق المنشور فإن “الطرفين يعملان على تشجيع مشاركة سفن الجزائر وتركيا في نقل الركاب والبضائع بين البلدين، وعدم عرقلة السفن الحاملة لراية الطرف المتعاقد الآخر، من القيام بنقل البضائع بين موانئ بلدي الطرفين المتعاقدين وبين موانئ بلدان أخرى”.
فيما وصف تبون خلال لقاء مطوّل مع مجلة “لوبوان” (Le Point) الفرنسية الأسبوعية، في 2 حزيران/يونيو 2021، العلاقات التي تربط بلاده بتركيا بـ”الممتازة”، مؤكدًا أن “تركيا دعمت الجزائر دون مقابل”.
وأكد تبون أن “الأتراك استثمروا في الجزائر بقيمة 5 مليارات دولار، دون أن يشترطوا أي أمر سياسي”.
ولفت تبون في هذا الصدد إلى أن “تركيا دعمت الجزائر بهذه الاستثمارات دون أي مقابل”، مضيفا “أما الذين لا يشعرون بالراحة من هذه العلاقات مع تركيا، فليأتوا هم أيضا إلى الجزائر ويستثمروا فيها”.
ويسعى البلدان وفق العديد من الخبراء والمراقبين، إلى تحقيق تكامل في مختلف القطاعات لتعزيز سبل التعاون الاقتصادي والاستثماري والتعليمي والثقافي بينهما، وذلك بما يضمن رفاهية واستقلالية شعبيهما دون فرض أية شروط أو إملاءات من قبل أي منهما على الآخر. وكان ذلك قد بدى واضحا من خلال تصريحات المسؤولين في البلدين التي أكدت على عمق العلاقات بينهما والتي تعززت خاصة خلال جائحة “كورونا”.