أن تسترجعَ لحظاتٍ عاشها شعبٌ ما، جامعاً بين مرارة التجربة وفرحة الانتصار، يعني أنك تستذكر تركيا ليل 15-16 تموز/يوليو 2016، وما تزامن معه من أحداث انقلابٍ فاشل.
فهذا البلد الذي كان قد عرف 4 انقلابات بين ستينيات وتسعينيات القرن الماضي، قالها هذه المرة مِلء أرجاء البلاد “لا” للانقلاب على الديمقراطية، و”لا” للانقسام، و”لا” للاقتتال الداخلي، و”لا كبرى” لتدمير الوطن.
في الساعة الأخيرة من الخامس عشر من تموز/يوليو 2016، كانت تركيا على موعدٍ مع سحابة صيفٍ تمثّلت في انطلاق أحداثٍ انقلابية بتوجيهٍ من قيادات وضباط بعضُهم برُتب رفيعة.
سحابةٌ ما لبثت أن انقشعت مع ساعات الفجر الأولى ببركة المواطنين الأحرار، معارضين وموالين، الذين أظهروا أعلى درجات التعاضض والزَود عن الوطن.
بإغلاق عناصر انقلابية من الجيش التركي جسرَ البوسفور ومحاصرة المقرّ العام لحزب العدالة والتنمية في كبرى المدن التركية إسطنبول، بدأت الأحداث تتوالى معلنةً شرارة انطلاق ليلةٍ مفصلية في تاريخ تركيا الحديث.
طلقاتٌ نارية اخترقت ليل البلاد هنا وهناك.. وتحليقٌ على علوٍّ منخفض لطائراتٍ حربية ومروحية، أدخلت البلاد في حالة ارتباكٍ عاشها الأتراك، كما عاشها العالم كلّه الذي تحوّلت أنظاره نحو تركيا ترقّباً لما سيأتي بعد..
في ذلك التوقيت، لم تكن قد تبلورت الصورة بعد، إلا أن شهر تموز الصيفيّ اتضح أنه يحمل أكثر لياليه سخونةً على الإطلاق، لأعوامٍ مضت وأخرى ستأتي.
بن علي يلدريم، رئيس الوزراء آنذاك، وعبر اتصال تلفزيوني أعلن الخبر اليقين: “ما يحدث هو محاولة انقلاب عسكري”.
العاصمة أنقرة شهدت بدورها إطلاق نار وسط تحليق مروحياتٍ عسكرية، وأنباء عن إقدام الانقلابيين على احتجاز قياداتٍ رافضة لمحاولة الانقلاب تلك، أبرزها رئيس هيئة الأركان وقتها خلوصي آكار.
ما هي إلا ساعاتٌ قليلة، حتى سيطر الانقلابيون على القناة التركية الرسمية “TRT”، وأجبروا إحدى مذيعاتها على قراءة “البيان رقم واحد” الذي يعلنون في بسطَ سيطرتهم على السلطة، وفرض الأحكام العرفية، وحظر التجوال، وإيقاف حركة النقل الجوي في جميع مطارات تركيا.
كيف لا، والمعروف في “قانون” الانقلابات أن نجاح أي انقلاب لا يتم إلا بالسيطرة على القصر الرئاسي ومراكز الحكم الرئيسة، والمطارات، والعاصمة، والقوات المسلحة، وأيضاً وبلا شك الإعلام الرسمي.
سريعاً، جاء الردُّ الرسميّ على الفوضى العارمة التي باغتت ليل تركيا الهادئ، بعد انتشار إشاعاتٍ حول فرار الرئيس رجب طيب أردوغان وثانية تدّعي أنه قابعٌ في مخبأٍ مجهول خوفاً من “مصيره المحتّم”، وأخرى ذهبت إلى حدِّ ادّعاء تصفيتِه.
فقد فاجأ الرئيس شعبه عندما ظهر في اتصالٍ عبر تطبيق “فيس تايم” مع محطة “CNN TURK” المعارضة، ودعا مواطنيه إلى النزول إلى الشوارع “للدفاع عن الديمقراطية التركية”، متوعّداً الانقلابيين بالعقاب الشديد. وطالب “جنرالات الجيش الشرفاء” بالوقوف في وجه هذه المحاولة الانقلابية التي نفّذها “مَن باعوا أنفسهم”. ثمّ حث البرلمان والأحزاب السياسية كافةً على النزول لرفضها.
اتصالٌ كان مقدّراً له أن يصبح الأشهر على الإطلاق، لما ترتّب عليه من تغيير في مسار الأحداث بشكلٍ دراماتيكي.
فبعد أن تشوّه المشهد العام وتقلّب الوقائع لساعات وضبابية الصورة بين نجاح الانقلاب وعدمه، ظهر الرئيس أردوغان ليكذّب ذلك، ويدعو شعبه لملاقاته في مطار إسطنبول عائداً من مارماريس حيث كان يقضي إجازته السنوية، للوقوف صفاً واحداً في وجه الانقلابيين.
وهكذا كان، ما هي إلا لحظات حتى استعاد الأتراك شتات أنفسهم، ونزلوا بالآلاف إلى الشوارع وواجهوا بصدورهم العارية دبابات الانقلابيين التي كانت تحاول فرض السيطرة التامة على العاصمة أنقرة، وهاجمت مباني الوزارات والمؤسسات العامة وسيطرت على بعضها.
المجمّع الرئاسي لم يكن في معزلٍ عمّا حدث، فقد سُمعت انفجاراتٌ وأصوات إطلاق نار فيه في إطار محاولة السيطرة عليه بوصفه أهم مركزٍ للسلطة.
أما مبنى البرلمان الذي احتضن جلسةً طارئة للنواب عقب كلمة الرئيس، فقد تعرّض للقصف بطائرات F16 كانت تحت سيطرة الانقلابيين، بعدما تعذّر عليهم الوصول إليه بسبب تجمّع حشود المواطنين حوله لحمايته.
وكان ملفتاً في خطاب الرئيس إيمانه باحتضان شعبه، بمعارضيه ومواليه، له ولتركيا من جهة، وابتعاده عن وصم الجيش والقوات المسلحة بشكلٍ عام بالخيانة، بل تأكيده على اعتبار أن الانقلابيين ليسوا سوى فئةٍ قليلةٍ ضالّة.
هذه الحكمة في الخطاب ورباطة الجأش اللذين أظهرهما الرئيس، قلَبا موازين الأحداث 180 درجة. فالحاضنة الشعبية التي أرعبتها دموية هذه الليلة، عادت وتضافرت لتقول لا للانقلاب على سلطةٍ وصلت عبر الانتخابات.
ولم يكد ينهي الرئيس خطابه، وعلى وقع نداءاتٍ أطلقتها المساجد عبر مآذنها، تسابق الأتراك إلى الشوارع، ما أدّى إلى وقوع مواجهاتٍ أسفرت عن سقوط شهداء من المواطنين العُزّل برصاص عناصر انقلابية من الجيش.
وأمام الأعداد المتزايدة من المواطنين الشجعان الذي نزلوا في تظاهراتٍ عفوية ضدّ الانقلاب، عجزت الدبابات عن التنقل بِحرّية في أنقرة وإسطنبول، وفشل الانقلابيون في السيطرة على المرافق الحيوية والمؤسسات الحكومية والمدارس العسكرية والجامعات.
زخم التظاهرات تضاعف مع إعلان زعماء الأحزاب المعارضة رفضهم أي محاولة انقلاب ضد سلطة أتت عن طريق ديمقراطية الاقتراع. وأبرزهم الرئيس التركي السابق عبدالله غول، ورئيس الحركة القومية دولت بهجلي، ورئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كلجدار أوغلو.
وما هي إلا دقائق حتى أعلن رئيس البرلمان التركي إسماعيل كهرمان، أنّ جميع النواب يرفضون محاولة الانقلاب ويقفون صفاً واحداً للدفاع عن الديمقراطية.
تبع ذلك إعلان المدير العام لمديريات الأمن التركية جلال الدين ليكسيز، توجّه قيادة قوات الدرك لاستعادة السيطرة على القصر الرئاسي من قبل الانقلابيين والمتمردين.
بحلول الساعة الرابعة من محاولة الانقلاب، بدأت دفّة السلطة ترجح بشكلٍ حاسمٍ، فتسارعت الأحداث وقام العديد من الجنود الانقلابيين بِرميِ أسلحتهم وتسليم أنفسهم فوق جسر البوسفور في إسطنبول، فيما قصفت مقاتلات “إف-16″ دبابات للانقلابيين في محيط القصر الرئاسي بأنقرة، واستُعيدَت السيطرة على مبنى التلفزيون في العاصمة.
المئات من عناصر وضباط الجيش في قيادة هيئة الأركان سارعوا إلى تسليم أنفسهم إلى قوات الشرطة، مؤكدين أنه تم استدعاؤهم إلى مقرّ هيئة الأركان بحجّة إجراء مناوراتٍ وتدريباتٍ عسكرية.
إعلان القضاء على المحاولة الانقلابية جاء على لسان وزير الداخلية وقتها إفكان ألا، الذي كشف أن قائد الانقلاب هو مستشار رئيس الأركان التركي العقيد محرم كوسا الذي تم إبعاده عن الجيش في آذار/مارس الذي سبق الانقلاب الفاشل بعد اتهامه بالولاء لـ”حركة الخدمة” بزعامة فتح الله غولن الذي يقيم في منفىً اختياري في الولايات المتحدة.
وكان كوسا قد قاد المحاولة الانقلابية رفقةَ 37 ضابطاً، أبرزهم العقيد محمد أوغوز واللواء أركان أكن أوزتورك القائد السابق للقوات الجوية، والعقيد ديريا يامان، بالإضافة إلى قائد القوات الثانية آدم حودوتي.
أما الجنرال خلوصي أكار الذي تم احتجازه في بداية الأحداث في إحدى القواعد العسكرية القريبة من العاصمة التركية أنقرة، فقد تم إنقاذه في عملية عسكرية بقيادة قائد الجيش الأول الجنرال أوميد دوندار الذي تولّى رئاسة الأركان بالوكالة.
الجنرال دوندار أعلن أن المحاولة الانقلابية نفذتها قوات من سلاح الجو وبعض قوات الأمن وعناصر مدرعة، وقد أسفرت عن استشهاد 90 شخصاً بينهم 41 من قوات الشرطة التركية، وعسكريان اثنان، و47 مدنياً. فيما اعتقل مئات الانقلابيين وعلى رأسهم الجنرال صادق كور أوغلو، وقتل منهم 104 أشخاص.
وما كادت ساعات الفجر الأولى ليوم السبت 16 تموز/يوليو تبدأ، حتى أعلن الرئيس أردوغان فشل الانقلاب العسكري، ودعا المواطنين إلى البقاء في الشوارع لحين عودة الوضع إلى طبيعته. وأكد في كلمة أمام آلاف المواطنين الذين احتشدوا لاستقباله في مطار أتاتورك مًلوّحين بالأعلام، إنّ “الحكومة لا تزال على رأس السلطة”.
وزارة العدل أعلنت من جانبها أنّ النيابات العامة في جميع الولايات فتحت تحقيقاً في محاولة الانقلاب الفاشلة. وفي الأثناء توالت الاعتقالات والعزل في صفوف العسكريين والموظفين العامّين والقضاة وغيرهم ليصل إلى الآلاف، بينهم على الأقل 16 جنرالاً، منهم توزجان كزل إلما قائد القاعدة الجوية البحرية، وقائد قوات خفر السواحل التركية حاقان أوستم.
ودخلت البلاد في حالة طوارئ تمّ تمديدها مراراً، فيما تأكد أن فشل محاولة الانقلاب كان حتمياً نظراً لغياب القيادات العليا في هيئة الأركان التركية عنها. كما لعبت قوات الشرطة التركية والمخابرات دوراً محورياً في ضرب المحاولة الانقلابية في مقتل. ومن أبرز الشخصيات التي ساهمت في قلب الأحداث رئيس المخابرات حاقان فيدان.
وفي وقتٍ لاحق الفاشل كُشفَ أنّ الرئيس أردوغان نجا من محاولة تصفيته في هجوم شنّته قوة انقلابية على الفندق الذي كان يقيم به في مدينة مارماريس، لكنّه كان قد غادره قبيل هبوطهم بالمروحيات، متوجّها إلى المطار لركوب طائرته نحو إسطنبول حيث كان المواطنون باستقباله.
ليلة الخامس عشر من تموز هذه ربما شكلت محنةً غير مسبوقة للسلطات التركية، لكنها في المقابل تحوّلت إلى منحة حيث ظهر الانقلابيون دون وجوه تنكرية، وتمكنت السلطات من ملاحقتهم والتخلص من الموالين لتنظيم فتح الله غولن الإرهابي المعروف بالتنظيم الموازي في القوات المسلحة والإدارات العامة.
لكن أبرز ما قدّمته هذه الليلة على الإطلاق هو رسالة شديدة اللهجة وجّهها الشعب التركي بانتصاره على مخرّبي الداخل والخارج تقول: “في وجه الأزمات نحن شعبٌ واحد، نترك خلافاتنا جنباً ونتضافر لحماية وطننا بأرواحنا”.