مرحلةٌ جديدة من القوة تقبل عليها تركيا بخطىً ثابتة، عنوانها الرئيس والمحوريّ هو اكتشاف مخزون من مليارات الأمتار المكعبة من الغاز الطبيعيّ في البحر الأسود.
اكتشافٌ وصفه العدو قبل الصديق بالتاريخيّ، أعلن عنه الرئيس رجب طيب أردوغان تِباعاً، حيث بلغ إجمالي احتياطي الغاز المكتشف في المنطقة 540 مليار متر مكعب.
وأمام هذه التحوّلات، يرى محللون أن تركيا مقبلةٌ على مرحلةٍ من القوة الاستراتيجية والاستقلالية المطلقة والسيادة الدولية، نظراً لتحررها تدريجياً من الحاجة إلى استيراد موارد الطاقة، لا بل واستعدادها لدخول نادي البلدان النفطية بمخزونٍ تنافسيّ!
وفي حديث مع “وكالة أنباء تركيا”، قال الدكتور مصطفى البزركان، مدير مركز معلومات ودراسات الطاقة إن “الموقع الجيوسياسيّ الاستراتيجيّ لتركيا جعلها تمثل نقطة تواصلٍ وبوّابة عبور لأكبر خطوط أنابيب نقل الغاز إلى أوروبا”.
وأوضح أن “مشروع خط نابوكو لعبور الغاز باتجاه أوروبا ليصل بلغاريا وإيطاليا والنمسا، يشكّل دليلاً على أهمية موقع تركيا جيوسياسياً، ولكن عُلّق تنفيذه بسبب ضغوط تعرّضت لها دول الاتحاد الأوروبيّ”.
وتابع البزركان “نجحت تركيا بالاستعاضة عنه بالسيل التركي 1، والسيل التركي 2، وهذه الخطوط مثّلت شرياناً حيوياً لاقتصاد تركيا عبر سدّ احتياجاتها من الغاز الروسيّ بأسعارٍ تنافسية، إضافةً إلى تعزيز أهمية تركيا إقليمياً ودولياً بما تمثله من بوّابة الغاز إلى أوروبا”.
وأضاف “ثم جاءت الجهود التركية الذاتية لاكتشافات الغاز شرقي البحر المتوسط، التي تمثل بدايةً واعدة نظراً لأنها تمّت بجهودٍ وخبراتٍ تركيةٍ بعيدة عن احتكار شركات النفط والغاز الأجنبية التي غالباً ما تمثل المصالح السياسية للدول الغربية بعيدا عن المصالح التركية المشروعة”.
وبيّن البزركان أن “كميّات الغاز المكتشفة حالياً في البحر الأسود تغطّي حاجة تركيا لسنواتٍ قادمة، ومع التقنيات والخبرات التركية المتوفرة ستزداد كميات الغاز المكتشفة، وبالتالي تزداد الفترة التي تغطّيها لسدّ الحاجة المحلية”.
وحول ما إذا كان متوقعاً أن تتجاوز تركيا كونها بلداً منتجاً وتتحول إلى بلدٍ مصدّر للنفط، قال البزركان “قد تتوفّر في المستقبل كمياتٌ إضافية تسدّ حاجات تركيا من الغاز الطبيعيّ فتتوقف حاجتها لاستيراد الغاز، وقد تعيد تصديره إلى أوروبا التي هي في أمسّ الحاجة له”.
ولفت إلى “وجود نقطةٍ مهمة لصالح تركيا وهي أن الغاز الطبيعيّ يشهد ارتفاعاً في الأسعار، ما يشجّع تركيا على الاستثمار في الاكتشاف والتنقيب والإنتاج”.
وختم البزركان قائلا إنه “يمكن للغاز الطبيعيّ أن يكون عامل توحيد جهود اقتصادية إقليمية ودولية، تعود بالفائدة على دول منطقة شرق المتوسط، وكذلك تؤدي إلى ظهور تحالفاتٍ اقتصادية وسياسية تعود بالمنافع الاقتصادية على تركيا ودول المنطقة”.
من جانبه، قال الكاتب والمحلل السياسي يوسف كاتب أوغلو إن “تركيا اتخذت خطوات جريئة وقوية ومهمّة في تعزيز دور قطاع الطاقة في البلاد، وخاصة الغاز الطبيعي والنفط الخام. وهذا أدّى إلى الاكتشافات المستمرة للكثير من مصادر الطاقة التي بدأت في البحر الأسود.
وأضاف كاتب أوغلو لـ”وكالة أنباء تركيا” أن “الاكتشافات التي بدأت في أيلول/سبتمبر 2020 من المتوقع أن تعطي أُكُلها بعد الانتهاء من إجراءات البنية التحتية والاستفادة منها بشكلٍ مباشر مع بداية العام 2022”.
وتابع أن “الاكتشافات التي تمّت تدلّ على حجم احتياطات، خاصةً عندما نتكلم علن حقل صقاريا للغاز الطبيعي في البحر الأسود، الذي يتجاوز الـ 320 مليار متر مكعّب، وهو مؤشّر أوّلي عن حجم الاحتياطي الذي تمّ الإعلان عنه من قبل الجهات الرسمية ووزارة الطاقة”.
وأردف “هذا ليس الاكتشاف الوحيد، إنما أعقبته اكتشافات أخرى في حقول أخرى في البحر الأسود، وهناك بشائر تدلّ على وجود احتياطات ضخمة جداً شرقي البحر المتوسط ضمن المياه الإقليمية التركية بالإضافة إلى اكتشافات البترول الخام في اليابسة والمياه الإقليمية التركية”.
وشدد كاتب أوغلو أن “هذه الاكتشافات من شأنها أن تدعم الاقتصاد كونها موارد طاقة محلية، ورفدُها للاقتصاد سيكون بسرعة وفعالية أكبر بحيث سيدعم العجز في الميزان التجاري. يكفي أن نعرف أن ربع عقود الغاز طويلة المدى التي وقّعتها تركيا لاستيراد الغاز الطبيعي من دول أخرى مثل غاز بروم الروسية وسوكار الأذربيجانية والغاز الطبيعي المسيّل المستورد من نيجيريا، تنتهي آجالها مع نهاية هذا العام”.
ولفت إلى أنه “من المتوقع أن يكون هناك عدم تجديد لهذه العقود بفضل بدء استخراج واستخدام الغاز الطبيعي المحلّي من الحقول المكتشفة”، مشيراً إلى أن “الغاز المكتشف في بئر تونا ضمن حقل صقاريا قبالة مدينة زونغولداغ يعتبر أكبر اكتشاف لاحتياطات ضخمة جداً في حقل للغاز الطبيعي في تاريخ تركيا.. وبالتالي من المتوقع أن يكون تأثيره من منظور استراتيجي ينعكس بشكل إيجابيّ، على أن يساهم في تخفيض 21 مليار دولار من قيمة واردات تركيا السنوية من مصادر الطاقة التي تبلغ 41 مليار دولار سنوياً، أي ما يقارب النصف تقريبا”.
ورأى كاتب أوغلو أن “اكتشاف الغاز سيعزّز من ريادة تركيا العالمية في تجارة الطاقة، كما تعتبر أنها قد دخلت فعلا نادي منتجي الغاز عالمياً مع إعلانها عن الاكتشافات التي تمّت واستمرار المهمّات في الكشف عن احتياطات إضافية متوقعة في البحر الأسود والبحر المتوسط. وهذا يدلّ على مدى تأثير مصادر الطاقة واكتشاف الغاز، والتطوّرات الإيجابية ستنعكس على الواقع الاقتصادي بقوة وتحقيق تركيا لأهداف 2023 ألا وهي أن تصبح من أقوى 10 دول اقتصادية في العالم”.
وشدد أن “تركيا الآن في المرتبة الـ 16، وهي بدأت تزاحم بقوة على المرتبة الـ13”.
وفي إجابةٍ على سؤال حول التأثيرات التي تحملها هذه المستجدات على التحالفات مع تركيا، أكد كاتب أوغلو أن ذلك “ستكون له تأثيرات مهمة وقوية واستراتيجية في التحالفات مع تركيا.. فعندما تبدأ في أن تكون مستقلة أو تقلل من اعتمادها على مصادر الطاقة الخارجية، سيعطي هذا لها استقلالاً في صنع القرار وتمكّناً من أن تكوّن تحالفات استراتيجية قوية مبنية على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة”.
وتابع “لن تكون تركيا مرهونةً بقرارها السياسيّ لدولٍ تتحكّم في مصادر الطاقة التي كانت تتعامل معها، وخصوصاً مع دول مثل إيران وروسيا، والبديل الآن هو اكتشاف مصادر طاقة محلية، وهذا ما نجحت به بإمكانيات وطنية على رأسها سفينة التنقيب (الفاتح) و(السليم)، وسفن التنقيب شرقي البحر المتوسط”.
وتوقّع أن “التحالفات الدولية مع تركيا سيعاد تمحورها وتموضعها بناءً على قوة تركيا المتنامية والمتصاعدة، كونها لاعب إقليمي مهم ومنتامٍ ويُحسب له ألف حساب، وتمشي بـخطى واثقة لتحقيق أهداف 2023 بتحالفات استراتيجية مهمة مع دول المنطقة. فهي لديها علاقات استراتيجية مميزة مع أذربيجان التي تعتبر أيضاً شريكاً في مصادر الطاقة.. ولديها تحالفات استراتيجية مع ليبيا بما في ذلك في موضوع الطاقة.
وكشف كاتب أوغلو أنه “من المتوقع أن يكون هناك قريباً توقيع اتفاقية مع مصر في ترسيم الحدود البحرية شرقي البحر المتوسط، وبالتالي ستنضمّ مصر ربما لتعاون استراتيجي في موضوع الطاقة وسحب البساط من الدول التي تحاول أن تعرقل التعاون الاستراتيجي مثل اليونان وقبرص وفرنسا وغيرها”.
وأضاف “الطاقة عنصر أساسي، وصراع العالم يقوم على كيفية السيطرة على مصادر الطاقة، وتعتبر تركيا بلداً مهم استرتيجياً بوضعها الجيوسياسي والجيو إقليمي، فهي ممرّ أساسيّ لمصادر الطاقة من روسيا وإيران إلى دول أخرى، ولكنها الآن أصبحت لاعباً أساسياً، ودخلت نادي منتجي الطاقة العالمي، وسيكون لها تأثيرٌ قوي في تحديد والتأثير على بورصة الطاقة العالمية، وهذا سيُعزّز من مكانتها الإقليمية والعالمية والارتقاء في سلّم الدول الأقوى اقتصادياً في العالم”.
وأكد كاتب أوغلو أن ذلك “سيعزّز من إمكانية تحقيق باقي أهداف 2023 وهي الارتقاء بالصادرات التركية لتصبح 500 مليار دولار والواردات 500 مليار دولار، وبحجم تجارة إجمالي واحد تريليون دولار، وأيضاً الارتقاء بمستوى دخل الفرد والإنتاج القومي إلى 2 تريليون دولار، وهو الآن بحدود 900 مليار إلى واحد تريليون دولار، وبالتالي أن يرتقي معدّل متوسط دخل الفرد السنوي للمواطن التركي من 12 ألف دولار حالياً إلى نحو 25 ألف دولار”.
وختم بالقول إن “هذه أهداف وضعتها تركيا وتريد تحقيقها، وفي حال لم تحققها تماماً كما هو مخطط، فهي تكون قد ارتقت وتحسنت إلى مستويات كبيرة وانعكست بشكل إيجابي على حياة المواطن التركي، ويصبح لديها الاستقلالية والسيادة والارتقاء بالمستوى المعيشي لتركيا وللشعب التركي”.
وكانت تركيا قد أعلنت في 31 آب/أغسطس2021، نجاح ثاني اختبار لتدفّق الغاز الطبيعي من بئر (توركالي 2) بحقل صقاريا المكتشف في البحر الأسود بجهودٍ تركية محلية.
وعلق وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونماز، على نجاح الاختبار بالقول “سنستمرّ خطوةً بخطوة حتى عام 2023.. الشعلة الجديدة لنار استقلالنا في الطاقة تلاقت مع السماء اليوم”. وأعلن في بيان أن “غاز البحر الأسود يعدّ الأيام للالتقاء مع 81 ولاية في تركيا”.
جاء ذلك بعدما كانت مؤسسة البترول التركية قد أعلنت في 29 تموز/يوليو 2021، نجاح أول اختبارٍ لتدفّق الغاز من البئر نفسه.
وأوضحت أن “0.75 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي تدفّق من مستوى الخزّان الأوّل الذي تم اختباره”، لافتة إلى أن “نتائج التحليل أظهرت امتلاك البئر طاقة إنتاجية يومية تصل إلى 1.2 مليون متر مكعب”.
وتعمل مؤسسة البترول التركية على مشروع لتطوير الحقل، يتكوّن من نظام إنتاج غاز سيتم إنشاؤه تحت سطح البحر، ومنشأة معالجة على شاطئ فيليوس بولاية زونغولداق شمالي تركيا، وخطوط أنابيب لربط هاتين الوحدتين.