كيف فتح السلطان القانوني بودا وأخضع المجر للسيطرة العثمانية؟ (تقرير)
10 أيلول 1526.. عندما أدّب سليمان القانوني ملك المجر بإبادة أعتى الجيوش الأوروبية!
في 10 أيلول/سبتمبر عام 1526، فتح السلطان سليمان القانوني مدينة بودا التي كانت عاصمة المجر، محققاً بذلك نصراً غير مسبوق بعد معركةٍ دامية أباد خلالها الجيش الأوروبي في معركة واحدة.. معركة موهاكس.
فما هي الأسباب التي أدّت إلى هذا الفتح العظيم؟ كيف كان تسلسل الأحداث؟ وما كانت تبعاته؟
“أسوأُ من هزيمتنا في موهاكس”، مثلٌ يُضرب في الغرب عند التعرّض لكارثة.. فما هي معركة موهاكس؟ وما علاقتها بفتح بودا ومملكة المجر؟ ولماذا لهذه الدرجة يراها الغربُ كارثيةً؟!
لنبدأ مما قبل فتح بودا..
عندما رحل السلطان سليم الأول، خلفه في الحكم السلطان سليمان القانوني، ليصبح بذلك عاشر سلاطين الدولة العثمانية، ولأنه كان شابّاً في الخامسة والعشرين من العمر، استخفّ به ملوك أوروبا، وأوّلهم ملك المجر لويس في ظلّ تحالفه القويّ مع إمبراطور إسبانيا وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة شارلكان (كارلوس الخامس).
في تلك الفترة كانت أوروبا منقسمةً إلى حدٍّ ما مع الحفاظ على قوّتها، فمن جهة كان الإمبراطور شارلكان بدولته المترامية الأطراف “الإمبراطورية الرومانية المقدسة” التي تشمل إسبانيا وإيطاليا وأجزاء من ألمانيا والنمسا وهولندا وبلجيكا وسويسرا ولوكسمبورغ وبعض مناطق فرنسا.
ومن جهةٍ ثانية كان فرانسوا الأول ملك فرنسا المنافس الأوّل لشارلكان، الذي كان قد فشل في الفوز بقيادة الإمبراطورية الرومانية المقدسة بعد هزيمته أمام شارلكان في معركة بافيا، وأسره لعدّة شهور، فتحالف فرانسوا مع السلطان سليمان، ليضرب منافسه شارلكان.
ولتوسيع مناطق نفوذه، زوّج شارلكان أخته من ملك المجر لويس الثاني، كما زوّج أخاه فرديناند من أخت لويس، الذي لم يكن له أبناء يرثون العرش، فخطّ” شارلكان لإعطاء أخيه فرديناند حكم المجر بعد وفاة ملكها.
ظنّ لويس الثاني أنه أمام سلطانٍ ضعيف، وتمرّد على السلطنة عبر رفض الاستمرار بدفع الجزية، بل وأقدم على قتل سفير السلطان عندما جاء يبلغه بتولّيه الحكم، ويجدّد معه الاتفاق السابق.
هذه الجريمة دفعت بالسلطان سليمان إلى تجهيز وقيادة جيشٍ كبير خرج به من إسطنبول في 11 رجب 932هـ، الموافق لـ 23 نيسان/إبريل 1526م، وفي عداده نحو مئة ألف جنديّ، و350 مدفعاً ضخماً و800 سفينة، مقابل 65 مدفعاً مجرياً.
في الجهة المقابلة، أعلن بابا الفاتيكان كليمنت السابع حالة النفير العام في أرجاء أوروبا لمحاربة سليمان القانونيّ، وأصدر قراراً بمنح صكوك الغفران لكل صليبيّ يشارك بهذه المعركة وتكوّن أكبر حلفٍ عسكريّ أوروبي تحت اسم “الإمبراطورية الرومانية المقدسة”، ومملكة المجر التي تشمل المجر وسلوفاكيا وترانسيلفانيا وهي رومانيا الحالية إضافة إلى شمال صربيا، ومملكة بوهيميا وهي جمهورية التشيك الحالية، مملكة كرواتيا، مملكة بولندا، إمارة بافاريا الألمانية وتشمل ولاية البايرن الألمانية وجيوش الدولة البابوية، إضافة إلى مرتزقة أوروبيين من عدة مناطق.
فتكوّن جيش موهاكس من أشدّ فرسان أوروبا بطشاً مُدعّمين بأسلحة متطوّرة، وكان بقيادة مجموعة من أهمّ قادة المجر وقتها على رأسهم الملك لويس الثاني، وملك مملكة المجر “بال توموري”، وهو قسّيس قاد أحد أجنحة الجيش بنفسه لـ بث “الروح الصليبية” لدى المقاتلين.
وبينما كانت التحضيرات الأوروبية العسكرية على أشدّها، كان الجيش العثماني يسجّل الفتوحات المتتالية وهو في طريقه إلى المجر، ففتح عدة قلاع حربية على نهر الطونة، وحصن بلغراد (عاصمة صربيا الحالية) المنيع الذي توافق سقوطه مع عيد الفطر، فتلقى السلطان سليمان التهاني بالعيد والنصر داخل بلغراد.
وقد حصدت المدافع والرماة العثمانيون أرواح الفرسان المجريين الأشدّاء بسهولةٍ ويسر، ويقال إنّ الكثير من القادة حاولوا الاستسلام، لكنّ القرار السلطانيّ كان حاسماً: “لا نريد أسرى، قاتلوا أو موتوا”، ويقال إنّ الجنود العثمانيين كانوا يناولون مَن يريد الاستسلام من الأوروبيين سلاحه ليقاتل لأنّه لن يؤسر.
بعدها توجّه الجيش العثمانيّ شمالاً إلى المجر، وصل “وادي موهاكس” بعد 128 يومًا من خروج الحملة، قاطعاً ألف كيلومترٍ من السير، وفي 21 من ذي القعدة عام 932هـ ، 29 آب/أغسطس عام 1526م، أمَّ السلطان سليمان جيشه في صلاة الفجر.
قضت خطة السلطان باستدراج قوات الأعداء لتطويقهم ووضعهم وجهاً لوجه أمام مدافع القوات العثمانية، فاصطفّ الجنود العثمانيون في ثلاثة صفوف، حيث كان السلطان والفرقة الإنكشارية في الصف الثالث ومن ورائهم المدافع، حتى إذا بدأ القتال تتقهقر الصفوف الأولى وتتراجع خلف صفّ السلطان.
بدأ الاصطدام العسكريّ المباشر بين قوّات الانكشارية العثمانية (قوات النخبة) وبين قوّات الفرسان المدرّعين المجريين، صمد الانكشاريون طيلة ساعة، وفي اللحظة المناسبة، عندما وصلتهم الإشارة بدأوا الانسحاب التكتيكي، فظنّ المجريون أنهم انتصروا، فاندفعوا إلى الأمام.
ثم ما لبث أن انفتح الجيش العثماني كدفّتَي كتاب، وفي اللحظة المناسبة أصبحت القوات المجرية في مواجهة المدافع العثمانية الثقيلة، عندها أعطى القائد سليمان القانوني الإشارة لسلاح المدفعية بالبدء بالهجوم المضادّ فحصدتهم حصدًا.
وإزاء الخطة المُحكمة التي نفّذتها القوات العثمانية، راحت القوات الصليبية تفرّ من ساحة المعركة بشكلٍ فوضويّ، واستمرَّت المعركة ساعةً ونصف الساعة، وفي أقصى تقدير ساعتين، وفي أعقابها بات الجيش المجريّ في ذمّة التاريخ، بعد أن غرق معظم جنوده في مستنقعات وادي موهاكس.
لم يكن النصر وحده ما ميّز هذه الملحمة، فقد تميّزت معركة موهاكس بعلامةٍ فارقة تمثلت في قرار السلطان سليمان “لا نريد أسرى، قاتلوا أو موتوا”، فقام الجنود العثمانيون بمناولة مَن يريد الاستسلام من الأوروبيين سلاحه ليتابع القتال، لأنّه لن يؤسر.
هذا القرار لا تنساه أوروبا للسلطان سليمان حتى الآن، فقد انتهى بإبادة الجيش الأوروبي بمن فيه الملك فيلاد، والأساقفة السبعة الذين يمثلون المسيحية، ومبعوث البابا، وسبعون ألف فارس، كما تمّ أسر 25 ألف جريح. في حين فقد الجيش العثماني نحو 1500 شهيد، وأصيب منه نحو 3000 جريح.
شكّلت ملحمة موهاكس واقعةً غريبةً من حيث سرعة الحسم، ومعركةً مفصليةً في تاريخ الدولة العثمانية، فقد أدّت إلى فرض سيطرتها المطلقة على المجر، بعد دخول الجيش العثماني العاصمة المجرية “بودا” في 10 أيلول/سبتمبر من العام نفسه، وهي جزء من عاصمة المجر الحالية “بودابيست” بعد أن اتّحدت مع مدينة بيست، ووافق فتحُ بودا عيدَ الأضحى، فتلقى السلطان سليمان تهاني عيد الأضحى والنصر فيها قبل أن يغادرها بعد ذلك بيومين.
وقد عيّن السلطانَ زابوليا ملكاً على المجر بشرط تأدية الجزية، وعاد الجيش العثمانيّ إلى إسطنبول بعدما هزم المجريين وقضى على دولتهم وجيشهم، وأصبحوا دولةً تابعةً للدولة العثمانية.
وخلال القرون الأربعة التي تلت المعركة، تقاسم النمساويون من الغرب والعثمانيون من الشرق النفوذ على المجر. فبعد فترة انقلب فرديناند (شقيق شارلكان) على زابوليا، واستطاع السيطرة على العرش، فطلب زابوليا دعم السلطان ليهزم بذلك فرديناند، ويقر على تبعية العرش الاسمية للدولة العثمانية.
ما زالت معركة موهاكس في الوجدان المجريّ خصوصاً والأوروبي عموماً تُستذكر على أنها هزيمة نكراء لا يمكن نسيانها، ونتيجة لها استولى العثمانيون أيضاً على المنطقة الممتدة من العاصمة العثمانية إسطنبول وصولاً إلى أسوار فيينا، حيث انهار الحاجز المجريّ الذي كان يقف في وجه العثمانيين للوصول إلى النمسا وألمانيا.
كما فتحت موهاكس باب المجد على مصراعيه أمام السلطان سليمان القانوني ليصبح بعدها أوسع السلاطين عزًا ومجدًا، وليمثل عهدُه ذروة بهاء الدولة العثمانية.