تقاريرحدث في مثل هذا اليوممميز

بالذكرى الـ 60 لإعدامه.. عدنان مندريس شهيد الوطن والديمقراطية (تقرير)

إعدام مندريس يعتبره الأتراك وصمة عار بالديمقراطية التركية

واحدٌ من أسوأ الأيام في تاريخ الحياة الديمقراطية عاشته تركيا قبل 60 عاماً، إثر تنفيذ حكم الإعدام شنقاً بحقّ أول رئيس وزراء منتخب هو عدنان مندريس، وذلك في 17 أيلول/سبتمبر 1961.

تنفيذ حكم الإعدام بحقّ مندريس جاء بعد محاكمةٍ عسكرية صورية أعقبت عزله من منصبه على أيدي ضباط في الجيش نفذوا انقلابا عسكريا عام 1960 الذي كان الأول الذي تشهده الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام 1923.

مندريس وبصمته على الحياة السياسية التركية

وُلِد عدنان مندريس عام 1899، في أسرة من كبار الملّاك بولاية آيدن التركية، حيث عرف بذكائه وفطنته.

تلقّى تعليمه في المعهد الأمريكي في إزمير، ثم التحقَ بجامعة أنقرة حيث حاز على شهادةٍ في الحقوق.

بدأت حياة مندريس تأخذ المنحى السياسي عندما انتسب في ثلاثينيات القرن الماضي إلى “حزب الشعب الجمهوريّ” الذي أسّسه مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، وفيما بعد تمكن من حجز مقعدٍ له في البرلمان بصفته نائباً مرشحاً عن الحزب، ليبدأ رحلته كسياسيّ بارز في البلاد.

عام 1945 أُلغيَ نظامُ الحزب الواحد في تركيا، فما كان من مندريس إلا أن قرّر الانفصال عن حزب الشعب بالاتفاق مع 3 نوابٍ آخرين، ومن ثم تأسيس “الحزب الديمقراطي”.

عام 1946 شارك الحزب الجديد في الانتخابات العامة، لكنه لم يحصل إلا على 62 مقعدا، لكنّ نجم حزب الشعب عاد ليصعد سريعاً وازدادت شعبيته في غضون سنواتٍ قليلة، وعام 1950 تمكن من الفوز في الانتخابات بالغالبية الساحقة من مقاعد البرلمان، الأمر الذي سمح له بتشكيل الحكومة. وبذلك أصبح مندريس أول رئيس وزراء في سابقةٍ هي الأولى من نوعها في الجمهورية التركية، حيث تولّى هذا المنصب مسؤولٌ من خارج حزب الشعب الجمهوريّ.

كما تميّزت الفترة التي تولّى فيها الحكم باتّباع سياسة التخفيف من حدّة بعض الإجراءات التي فسّرها البعض بأنها مغالاةٌ في العلمانية، فقام برنامجه الانتخابي على وعودٍ بالتخفيف من هذه القوانين الصارمة تحت عباءة العلمانية، وأهم هذه الوعود:

– عدم تدخل الحكومة في شؤون القطاعات الخاصة كما في السابق.

– تخفيف الإجراءات العلمانية الصارمة التي اتخذها سلفه إينونو، منها مثلاً إعادة رفع الأذان وقراءة القرآن باللغة العربية، والتعليم الديني إلى المناهج الدراسية.

– ضمان حرية المعتقد والديمقراطية.

– إدخال التكنولوجيا الزراعية إلى الأرياف عبر الجرّارات والحاصدات ودعم المزارعين.

– إنشاء السدود لدعم الزراعة.

الإصلاحات الاقتصادية

أسهمت إصلاحات مندريس هذه بتطوير الحياة الاقتصادية في تركيا، حيث تقلّصت البطالة وتحرّرت التجارة وعاش الناس فترة استقرار سياسيّ، إلى جانب تراجع حدة التوتر الذي كان سائداً بين السكان والدولة بسبب الإجراءات المناهضة للإسلام ولمظاهر التديّن والعبادات.

وخلال عهد مندريس تصدّرت تركيا الدول الأوروبية والشرق أوسطية في إنتاج القمح والبندق والتين المجفّف والعنب والقطن والشاي ومختلف أنواع الفاكهة والخضار.

كما تم إنشاء العديد من مخازن الحبوب، وكذلك تم ربط جميع القرى بشبكات طرق، وأنشئت معامل النسيج ومعامل عصير الفواكه، ومعامل الإسمنت ولوازم البناء، ومصانع الأحذية ودباغة الجلود ومعامل الصابون والأدوية.

كما رفعت حكومة مندريس جميع القيود أمام الواردات، وخفّضت نسبة الفائدة بهدف تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار. وأقرّت تعديلاتٍ قانونية لخصخصة المؤسسات الاقتصادية الحكومية، بغية تشجيع دخول الأموال الأجنبية إلى تركيا.

واستفادت الحكومة من مخصصات “مشروع مارشال” الأمريكي، لبناء منشآتٍ صناعية جديدة في تركيا، كما تم تأسيس بنك “وقف” التركي، في 1954. وخلال هذه الفترة حقق الناتج القومي الإجمالي لتركيا نمواً بنسبة 9%.

وفي عام 1954، فاز حزب مندريس مجدداً بغالبية ساحقة (93% من مقاعد البرلمان)، فاستمرت حكومته على نهجها. وفي عهده جنحت تركيا نحو السياسات الليبرالية الاقتصادية، وانضمّت إلى حلف شمال الأطلسي (NATO) وبنت علاقاتٍ قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية، إذ أرسلت قوات تركية إلى كوريا الجنوبية.

لكن الإصلاحات الزراعية أغضبت مُلّاك الأراضي، والكيان العسكري لم يكن راضياً عن تولّي مدني حكم تركيا، فخطط لإسقاطه بتهمة “خيانة علمانية الدولة”.

تراجع شعبية حزب مندريس 1957

في انتخابات عام 1957 خسر مندريس جزءاً من المقاعد النيابية، ومع نهاية الخمسينيات، كانت القوى العلمانية قد تمكنت من حشد غضبٍ شعبي داخل الجامعات والجيش لمعارضة سياسة الحكومة.

الانقلاب الأول في الجمهورية التركية عام 1960

بينما كانت تركيا تمرّ أواخرَ الخمسينيات بفترة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية، عمد نحو 38 ضابطاً وجنرالاً في الجيش إلى استغلال الوضع المتأزّم بهدف السيطرة على السلطة.

لم يكن مندريس إسلامياً كما ادّعت الاتهامات الأساسية الموّجهة إليه، لكن سماحه بمظاهر التديّن الإسلامية حفّز الجيش على الانقلاب عليه.

وفي الساعة الرابعة من صباح  27 مايو/أيار 1960، أعلن العقيد الانقلابيّ “ألب أرسلان توركيش” في بيانٍ بثّته الإذاعة، الانقلابَ على السلطة وتولّي القوات المسلحة التركية أمور البلاد.

في اليوم نفسه أُلقي القبض على عدنان مندريس، ولاحقاً احتُجزَ مع عددٍ من أعضاء حزبه في جزيرة “ياسّي أدا” في بحر مرمرة.

لم تقتصر اعتقالات المسؤولين على مندريس، بل أُلقي القبض أيضاً على رئيس الجمهورية محمود جلال بيار وعددٍ من الوزراء، واقتيدوا إلى أنقرة، ثم ما لبثوا أن انضموا إلى المعتقلين في سجن ياسّي أدا.

محاكم عسكرية صورية

بعدها بمدةٍ قصيرة أُنشئت محكمة خاصة للنظر بالتهم الموجّهة إلى المعتقلين السياسيين، ثم بدأت سلسلةٌ من المحاكمات العسكرية الصورية.

واجه مندريس 13 تهمةً كان أهمّها تهمة “خيانة الوطن والسعي لقلب النظام العلمانيّ وتأسيس دولةٍ دينية”، وأدين في 12 من هذه التهم، فأصدرت المحكمة أحكاماً بالإعدام بحقّه وحق 13 آخرين.

في المقابل قضت المحكمة بالسَجن المؤبّد بحقّ 31 شخصاً أبرزهم الرئيس بيار، في حين حُكم على 418 شخصاً بأحكام بالسجن تتفاوت بين ستة أشهر وعشرين سنة.

في ما بعد صدر عفوٌ عن المحكوم عليهم بالإعدام، باستثناء مندريس ووزير المالية ووزير الخارجية.

وفي الساعة الواحدة وإحدى وعشرين دقيقة من ظهر 17 أيلول/سبتمبر 1961، نُفّذ حكم الإعدام شنقاً بحق عدنان مندريس، الذي كان أول رئيس وزراء تركي يتولّى السلطة بعد انتخاباتٍ ديمقراطية.

تركيا تعيد الاعتبار لمندريس ورفيقيه

بقي عدنان مندريس ورفاقه 29 عاماً بعد إعدامهم مدفونين في سجن الجزيرة المسطحة (Yassi Ada)، قبل أن تقرّر السلطات التركية تصحيح الخطأ معنوياً وردّ الاعتبار إليهم.

وعام 1990 أصدر اتخذ الرئيس الأسبق تورغوت أوزال قراراً جريئاً بإعادة الاعتبار لمندريس ورفيقيه بولتكان وزورلو، وأوعز إلى نواب حزبه “الوطن الأم” الذين كانوا يمثلون الغالبية في المجلس الوطنيّ الكبير (مجلس النواب) بإصدار قانون يردُّ الاعتبار لمندريس ورفيقيه.

وفي 11 نيسان/أبريل 1990  أصدر البرلمان التركي القانون رقم 3623 الذي قضى بإعادة الاعتبار لعدنان مندريس وزملائه الذين أعدموا في القضية نفسها. فما كان من أوزال إلا أن سارع إلى إصدار مرسومٍ جمهوري بالقانون، ثمَّ أصدر أوامره بنقل رفات مندريس ورفاقه إلى مقبرةٍ خاصة أقامتها بلدية إسطنبول على تلة قريبةٍ من منطقة الباب العالي (Top Kapi).

وفي الذكرى الـ 29 على تنفيذ حكم الإعدام بحقّ مندريس ورفاقه، استقبلت رفاتهم في مراسم حاشدة في إسطنبول لأعادة دفنهم حضرها الرئيس أوزال إلى جانبه نخبة من المسؤولين في الدولة وقادة الجيش ورؤساء الأحزاب وحشود من المواطنين. وفي اليوم التالي عنونت الصحف صفحاتها بوصف مندريس وزورلو وبولتكان بشهداء الوطن والديمقراطية.

بعد ذلك تمّ إطلاق اسم عدنان مندريس على المطار الدوليّ بولاية إزمير، والعديد من الشوارع والجامعات والمدارس مثل جامعة عدنان مندريس، امتناناً لدوره في الحياة المدنية التركية، وإدانة ودفناً لإرث العسكر وانقلاباتهم.

وعام 2010 جاءت نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية بتجريم الانقلابات العسكرية ليعاقب عليها القانون بأثرٍ رجعيّ. ما عُدّ بمثابة إعادة اعتبارٍ شعبيّ لمندريس بعد خمسين عاماً من الانقلاب العسكريّ الذي أطاح به.

وعام 2012 اعترض عدد ٌمن النواب على إهمال قضية إعادة الاعتبار لمندريس. ومع نهاية العام نفسه تقدّم رئيس اللجنة الدستورية بالبرلمان التركي “برهان كوزو”، بطلبٍ إلى البرلمان بإعادة الاعتبار إلى مندريس. وأعلن كوزو أنه يسعى لاستصدار حكم بعدم شرعية المحاكمة والحكم عليهم بالإعدام، لأنهم لم يقترفوا من الجرائم ما يدعو لذلك، كما أن الأحكام العسكرية كانت بدون أدلّة.

أردوغان يحوّل “ياسّي أدا” إلى جزيرة “الديمقراطية والحريات”

في 27 أيار/مايو 2020 اختار أردوغان اليوم الموافق لذكرى الانقلاب ليفتتح جزيرة ياسّي أدا مجدداً للسياحة تحت اسم “جزيرة الديمقراطية والحريات”.

وحضر مراسم الافتتاح رئيس البرلمان مصطفى شنطوب، ورئيس حزب الحركة القومية دولت باهتشلي، ورئيس المحكمة الدستورية زهدي أرسلان، وأعضاء الحكومة، ورئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين ألطون، وقادة القوات المسلحة وعدد من النواب البرلمانيين.

وألقى الرئيس التركي كلمة في حفل افتتاح الجزيرة، قال فيها إن يوم انقلاب 27 أيار/مايو “كان أحد أسوأ الأيام في تاريخ تركيا”، إذ تعرَّضت قيادات الدولة في حينها “لأسوأ التصرفات والانتهاكات غير الإنسانية”، مضيفاً أن محاكمة مندريس كانت “غير شرعية”، وكانت “محاكمة لشعبنا وتاريخه ولأمتنا”، وأن تلك “خطوط سوداء لن تُمحَى من جبين الذين أصدروا قرار الإعدام على مندريس وزملائه”.

كانت جزيرة “ياسّي أدا” قد استُخدمت كمنفى منذ القرن الرابع للميلاد، وبُنيت عليها كنيسة ودير في الماضي، وتناقل ملكيّتها العديد من الأشخاص والجهات، إلى أن اشترتها القوات البحرية التركية عام 1947.

وبين العامين 1993 و2015 بقيت الجزيرة مهجورة، إلى أن قرّرت السلطات التركية إعادة تنظيمها وتحويلها إلى وجهةٍ سياحية، شهدت على أحد أبرز الفصول السياسية التي عاشتها الجمهورية التركية.

واليوم، تضم الجزيرة مسجداً يتسع لـ1200 شخص، ومركزاً للمؤتمرات، وفندقاً، ومعرضاً، ومكتبة، ومتحفاً، وحدائق، وهي تقع بالقرب من جزر الأميرات في ولاية إسطنبول الشهيرة بكونها وجهة سياحية مميزة.

زر الذهاب إلى الأعلى