
لم تكُن مجرّدَ وثيقة، بل كانت بمثابة إطلاق رصاصةِ غدرٍ على فلسطين.
هو “وعد بلفور” الذي وعدت بريطانيا بموجبه قادة الحركة الصهيونية بمنحهم أرض فلسطين ليبنوا عليها وطناً قومياً لليهود.
ما هو “وعد بلفور”؟
في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1917، صدر الوعدُ المشؤوم على شكلِ رسالةٍ وجّهها وزيرُ خارجية بريطانيا آنذاك آرثر جيمس بَلفور، إلى اللورد ليونيل روتشيلد، أحد زعماء الحركة الصهيونية في العالم.
في ما بعد اصطُلح على تسمية الرسالة بـ “وعد بلفور”، وجاء في نصّها أنّ “حكومةَ صاحب الجلالة تنظرُ بعَينِ العطف إلى تأسيس وطنٍ قوميٍّ للشعبِ اليهوديّ في فلسطين، وستبذل عظيم جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية”.
عمد بلفور إلى تضمين رسالته بعبارات خبيثة من شأنها خداع الشعب الفلسطينيّ، علّها تقلّل من ردّات الفعل على محتواها، فقد أوردَ أن “بريطانيا ستحافظ على حقوق القوميّاتِ الأخرى المقيمة في فلسطين”، ويعني بهم المسلمين والمسيحيين وأهلَ البلد من العرب غير اليهود بشكلٍ عام.
تحدّث عنهم بهذه الطريقة، وكأنهم أقليّات، مع أن يهود فلسطين الأصليين لم يكونوا يشكلون في ذلك الوقت سوى 8% من السكان، ولا يمكلون سوى 10% من مجمل الأراضي الفلسطينية التاريخية التي أُخضعت للانتداب البريطانيّ إبّان الحرب العالمية الأولى.
اتّضح سريعاً أن العبارة التي أشارت إلى الأقليات، على خُبثها وإجحافها، هي أيضاً لم تُطبّقها بريطانيا، فإقامة الكيان الإسرائيلي جاءت على حساب تهجير وقتل وتشريد الفلسطينيين الذين بلغ شتاتُهم مختلف بقاع الأرض.
لم يكد يمرّ عامٌ على الوعد المشؤوم، حتى حاز في عام 1918 على موافقةٍ رسمية من كلٍّ من إيطاليا وفرنسا، ثمّ تبعتهما الولايات المتحدة الأمريكية واليابان عام 1919.
مفاعيل الوعد تتابعت عبر تنظيم الاحتلال البريطاني رحلاتِ جلبٍ ممنهجٍ لليهود حول العالم، وتوطينهم في فلسطين طوال فترة الاحتلال التي امتدت بين العامين 1917 و1948.
واستكمالاً لوعدها، قدّمت بريطانيا الدعم للصهاينة لتأسيس دولة إسرائيل، حيث ساعدت العصابات الصهيونية وأمدّتها بالسلاح لترتكب به أفظع المذابح بحق الشعب الفلسطينيّ.
عُرِف الوعد بعبارة (وعدُ من لا يملك، لمن لا يستحق)، للتعبير عن عدم امتلاك بريطانيا الحقّ في منح أراضٍ لا تملكها لأشخاص غرباء لا يملكون فيها شيئاً، فقط لأنهم يهود.
من حيث المبدأ، يتعارض وعد بلفور مع مبادئ القانون الدوليّ الحديث، الذي ينظّم العلاقات بين الدول، خاصةً لجهةِ مبدأ عدم جواز ضمّ أراضي دول أخرى، أو الاعتداء عليها، فمن منظار ميثاق الأمم المتحدة الصادر منذ عام 1945، يُصنَّف هذا الوعد ضمن الأفعال التي تهدّد الأمن والسلم الدولييْن.
كما أنه يتعارض مع مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان واحترام حرية المعتقد والمساواة بين البشر بغضّ النظر عن العرق أو المعتقد.
السلطان عبد الحميد الثاني ومنع إقامة دولة للصهاينة
في ذكرى وعد بلفور، تعود بنا الذاكرة إلى السلطان عبد الحميد الثاني الذي منع قيام دولةٍ للصهاينة رغم كلّ الضغوطات، وهو القائل “إذا كنا نريد أن يبقى العنصرُ العربيّ متفوقًا، علينا أن نصرفَ النظر عن فكرِ توطينِ المهاجرين في فلسطين، وإلا فإن اليهود إذا استوطنوا أرضاً تملّكوا كافة قدراتها خلال وقتٍ قصير، وبذا نكون قد حكمنا على إخواننا في الدين، بالموت المُحتّم”.
فإنشاء دولةٍ قومية لليهود لم يكن وليد ساعته، فقد سبقتها محاولات عدة كان أبرزها عرضٌ كان تقدّم به رائد المشروع الصهيوني “تيودور هرتزل” للسلطان عبد الحميد الثاني، يتضمّن شطب جميع ديون السلطنة العثمانية، مقابل منح اليهود الحقّ في بناء وطنٍ لهم على أرض فلسطين.
وفي حزيران/يونيو 1896، زار هرتزل إسطنبول، وأرسل عرضاً سخيّاً للسلطان عبد الحميد، لكن الأخير ردّ بحزم قائلاً “لا أستطيع أن أتنازل عن شبرٍ واحدٍ من الأراضي المقدَّسة، لأنَّها ليست ملكي، بل هي ملكُ شعبي. وقد قاتلَ أسلافي من أجل هذه الأرض، وروُوها بدمائهم؛ فليحتفظ اليهود بملايينهم، إذا مُزِّقَت دولتي، فمن الممكن الحصول على فلسطين بدون مقابل، ولكن لزِمَ أن يبدأ التّمزيقُ أوّلا في جثّتنا، ولكن لا أوافق على تشريح جثَّتي وأنا على قيد الحياة”.
جهود السلطان لمنع إقامة دولة للصهاينة
واجه السلطان عبد الحميد الثاني مخططات الاستيطان بالعديد من الإجراءات التي قوّضت تحقيق أهدافهم إلى حدٍّ بعيد، لدرجة أنهم لجأوا إلى محاولة اغتياله لإزاحتهم من درب دولتهم القومية المنشودة.
– في أعقاب اغتيال قيصر روسيا ألكسندر الثاني عام 1881، الذي ثبَت تورّطُ اليهود في تنفيذه، آثر عددٌ منهم الهجرة إلى فلسطين هرباً من الاضطهاد الذي تعرّضوا له، فما كان من السلطان عبد الحميد الثاني إلا أن أمر في 21 كانون الثاني/يناير 1883، بمنع استيطان اليهود الروس في فلسطين.
– نتيجة لذلك، تعرّضت السلطنة لضغوطاتٍ أوروبية، فأصدر الباب العالي عام 1884، تعليماتٍ بالسماح لليهود بدخول فلسطين، لزيارة الأماكن المقدسة فقط، شرط ألا تزيد مدةُ إقامتهم فيها عن ثلاثين يوماً، ما لبثت أن أصبحت ثلاثة أشهر تحت الضغط الأوروبيّ.
– عندما اتضحت خطة الحركة الصهيونية، بدّل السلطان عبد الحميد الوضع الإداريّ للقدس عام 1887، لتصبح متصرفيةً خاصة تابعةً للباب العالي، بعد أن كانت سنجقية تابعة لوالي دمشق، وبذلك مكّن الدوائر الحكومية في العاصمة إسطنبول من إحكام المراقبة على حركة الهجرة اليهودية.
– وضعت السلطات العثمانية بقيادة عبد الحميد الثاني الصعوبات أمام اليهود الأجانب، الذين أصبحوا رعايا عثمانيين، وعمدوا إلى شراء أراضٍ لبناءِ مستوطناتٍ عليها عبر إرسال شخصياتٍ وهمية أو وسيطة، إضافة إلى استغلال بعض الفاسدين في الدوائر الرسمية الذين مررّوا عمليات البيع العقاريّ لليهود بخلاف القانون.
– بعد المؤتمر الأول للصهيونية في سويسرا بزعامة هرتزل، أوعز السلطان لسفرائه في الدول الأوروبية بتتبّع الحركة الصهيونية ومراقبتها والوقوف على أهدافها، واعتمد ميزانيةً خاصة للدعاية المضادة لتلك الحركة.
– بعدها كان حازماً بمنعِ المؤتمرات الصهيونية في فلسطين، بعدما تنبّه لخطرها عقب المؤتمر الأول الذي شهدته مستعمرة “زخرون يعقوب” عام 1901م، لدعم الحركة الصهيونية وتوحيد وتنظيم صفوف اليهود.
– كذلك منع السلطان عبد الحميد إنشاء جامعة عبرية في القدس، كانت تهدف إلى استقطاب الأساتذة اليهود في جامعات العالم، لتكون هذه الجامعة وسيلة للتسلّل الثقافي الصهيوني.
الصهاينة ومحاولة تصفية السلطان
لم تُعجب سياساتُ عبد الحميد الثاني، الصهاينة وداعميهم، الأمر الذي جعله عُرضةً لمحاولات التصفية الجسدية، فقد تعرّض لمحاولة اغتيال عبر تفجير قصر يلدز، تبرّع بدفع تكاليف العملية ملك إنكلترا “كارل إدوارد”، لكن القوات العثمانية أحبطت المؤامرة.
وفي سويسرا، حاول اليهود اغتيال السلطان بتمويل من إدوارد أيضاً، عبر تفخيخ العربة التي كان يستقلّها، إلا أنه نجا من الحادثة، فيما قُتل عددٌ كبيرٌ من الجنود.
خطواتٌ كثيرة قام بها السلطان عبد الحميد الثاني لمنع إقامة الدولة الصهيونية، التي لم تنجح في القيام إلا بعد حياكة المؤامرات ضد السلطنة العثمانية وتفكيكها، ما يجعل من هذا السلطان بمثابة آخر صخرةٍ وقفت بوجه المخططات الصهيونية على أرض فلسطين.
بودكاست TR.. تقرير: 104 أعوام على الوعد الذي انتظر رحيل السلطان عبد الحميد ليتحقق