مدونات TRهام

فتح القسطنطينية.. يوم تحققت البشارة النبوية فاحتفت الكعبة المشرفة

لأكثر من 8 قرون ظل المسلمون ينتظرون تحققت البشارة النبوية بفتح القسطنطينية، منتظرين القائد الذي سيحقق هذه البشرى ويحمل بركاتها وشرفها مع جيشه المبارك.

لذلك سعى المسلمون كثيرا لفتح القسطنطينية خلال القرون الثمانية الأولى من البعثة النبوية، إلا أن أحدا منهم لم يوفقه الله لتحقيق هذه البشرى، حتى شاء سبحانه وتعالى أن يكون السلطان الشاب محمد الفاتح هو المحقق لهذه البشرى.

السلطان الشاب محمد الفاتح ومن معه من جيش المسلمين، لم يسطروا أروع الانتصارات العسكرية التاريخية وحسب، بل قدما أيضا نموذجا عن حقيقة أخلاق الإسلام والمسلمين، من ناحية تجاه غير المسلمين، ومن ناحية أخرى بين المسلمين أنفسهم، حتى وصل الأمر أن احتفت الكعبة المشرفة في مكة المكرمة بفتح القسطنطينية من خلال تجمع المسلمين حولها وإظهار فرحتهم بما حققه محمد الفاتح وجيشه.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام :“لتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْش”، وهو حديث رواه الحاكم والإمام أحمد بإسناد صحيح، وصححه الحاكم النيسابوري، صاحب المستدرك على الصحيحين، وصححه الحافظ الذهبي، تلميذ ابن تيمية.

وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني يقول: نعم لقد تحقق فتح القسطنطينية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح.

الحديث رواه أيضا بشير الخثعمي، ونقله المحدث البوصيري، وخلاصة حكم المحدث في كتاب “إتحاف الخيرة المهرة” أن رواة هذا الحديث ثقات.

وأيضا نقله المحدث الهيثمي عن الراوي بشير الخثعمي في كتاب “مجمع الزوائد”، وخلاصة حكم المحدث أن رجال الحديث ثقات.

ذكرتُ هذه المصارد ليس حجة على غير المسلمين، ولكن حجة على المسلمين المشككين بهذا الفتح العظيم، الذي اعترف زعماء العالم الدينيين والسياسيين قديما وحديثا أنه حدث غير مجرى التاريخ لصالح المسلمين، إلا أنه مع الأسف الشديد خرجت علينا مؤخرا بعض الفرق التي ترفع شعارات الإسلام لتشكك بتحقق هذه البشرى على يد السلطان محمد الفاتح.. الأمر ليس مستغربا من فئة باعت أسس الدين أصلا فمن باب أولى أن تبيع محمد الفاتح وإنجازه العظيم.

بالمحصلة إنكار هذه الفئة لهذا الفتح العظيم لن يلغي من حقيقة تحققه وحقيقة أن السلطان محمد الفاتح حمل ومازال يحمل شرف هذه البشرى النبوية العظيمة، وهذا الإنكار لن يلغي التبعات العظيمة لهذا الفتح والتي تحققت للمسلمين قديما، وتتحقق اليوم مجددا على يد أناس عاملين يصلون الليل بالنهار وصولا لاستكمال مسيرة فتح القسطنطينية.

ولد السلطان محمد الفاتح في 30 آذار/مارس عام 1432 في مدينة أدرنه التي كانت عاصمة الدولة العثمانية يومها، والده السلطان مراد الثاني.

أتم الفاتح حفظ القرآن الكريم، ثم قرأ الحديث وتعلم الفقه، كما درس الرياضيات والفلك وأساليب الحروب.

تعلم الفاتح لغادة عدة هي اللغات العربية، الفارسية، اللاتينية، واليونانية، وامتاز بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل.

في 18 شباط/فبراير عام 1451 تولى السلطان محمد الفاتح عرش السلطنة العثمانية وهو ابن الحادية والعشرين من عمره.

كان محمد الفاتح شجاعا ذكيا ذا عزم وإصرار وهمة تناطح قمم الجبال، عمل لهدف وضعه نصب عينيه، ولم يبال بالصعاب والمشاق، فحاز الشرف، ونال قصب السبق رغم تأخر زمانه عن أقارنه، ونال الفتح العظيم، وظل طوال حياته ناصحا للإسلام وأهله.

فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح شكلت حدثا غيّر مجرى التاريخ، حيث اعتبره المؤرخون بمختلف توجهاتهم الدينية والسياسية أنه كان حقيقة نهاية للعصور الوسطى وبداية للعصر الجديد.

من أعظم الصور التي قدمها المسلمون بقيادة محمد الفاتح في اللحظات الأولى لاكتمال فتح القسطنطينية ودخول آيا صوفيا التي كانت كنسية في ذاك الوقت، أنهم لم ينهبوا ولم يقتلوا ولم يحرقوا ولم يضطهدوا ولم يسرقوا كما فعل الصليبيون في حملتهم الرابعة التي لها دعا بابا الفاتيكان إينوسنت الثالث، إذ إنه بعد دخول الصليبيين إلى القسطنطينية عام 1204 (أي قبل نحو 250 عاما من الفتح على يد محمد الفاتح)، تمت سرقة وتدمير ونهب العديد من القطع الفنية اليونانية والرومانية والبيزنطية، ونهبت ممتلكات كثير من السكان.

وفي تأريخه للحدث، كتب المؤرخ الأميركي من أصل يوناني المختص في التاريخ البيزنطي سبروس فريونيس قائلا “لقد دمر الجنود اللاتينيون أعظم مدينة في أوروبا بطريقة لا توصف، ولـ 3 أيام قتلوا واغتصبوا ونهبوا ودمروا على نطاق لم يتصوره المخربون والقوطيون القدامى”.

وقال فريونيس في كتابه “بيزنطة وأوروبا” إن “الفرنسيين وغيرهم خرّبوا العديد من القطع الفنية، بما في ذلك آيا صوفيا، حيث دنسوا أعظم كنيسة في العالم المسيحي، وحطموا الأيقونات الفضية المسيحية والكتب المقدسة في آيا صوفيا، وأجلسوا على العرش البطريركي عاهرة، وهم يحتسون الخمر في أواني الكنيسة المقدسة”.

هذه الصورة السوداء بكل تفاصيلها، لم يفعل المسلمون بقيادة محمد الفاتح ولو 1% منها عند دخولهم القسطنطينية وآيا صوفيا منتصرين، بل فعلوا عكسها تماما.. حموا الآثار، رعوا الفقراء، آمنوا الرهبان ورجال الدين المسيحيين، رمموا كل ثمين، ساهموا بنهضة اقتصادية وعلمية للمدينة بكل سكانها المسلمين وغير المسلمين، لم يحطموا الرموز، لم يهينوا المعابد، أظهروا كل أنواع الاحترام الإنساني لكل ما يتعلق بالمدينة وسكانها، فكانت هذه المعاملة الإسلامية ـ عكس كثير من شعارات اليوم في 2022 ـ سببا لفتح قلوب غير المسلمين بعد فتح الحجر والجغرافيا.. فكانت البشرى النبوية مزدوجة معبرةً عن أخلاق المسلمين الحقيقية.

وإلى جانب الصورة المشرقة التي قدمها المسلمون مع غير المسلمين في القسطنطينية بقيادة محمد الفاتح، كان هناك صورة مشرقة أخرى تحصل أيضا تزامنا مع الفتح العظيم، هذه المرة بين المسلمين أنفسهم، يوم كان المسلمون رحماء بينهم.. على عكس كثير من مسلمي اليوم.

حيث عمت الاحتفالات في المدن الإسلامية الكبرى بنصر المسلمين في القسطنطينية.. لم يكن المسلمون يومها يفرقون بين بعضهم البعض، هذا تركي وهذا عربي وهذا كردي وهذا آسيوي وهذا إفريقي وهذا أبيض وهذا أسود وهذا غني وهذا فقير.

ومن أبرز مدن المسلمين الذي أظهرت الفرح بانتصار المسلمين في القسطنطينية، كان القاهرة في مصر، حيث قال ابن إياس صاحب كتاب “بدائع الزهور” عن هذا الانتصار “فلما بلغ ذلك، ووصل وفد الفاتح، دقت البشائر بالقلعة، ونودي في القاهرة بالزينة، ثم إن السلطان عين برسباي أمير آخور ثاني رسولاً إلى ابن عثمان يهنئه بهذا الفتح”.

شاعر سلطان مصر الأشرف إينال ينشر فرحا بفتح القسطنطينية:

كذا فليكن في الله جل العزايم  * وإلا فلا تجفـو الجفـون الصـوارم
كتائبك البحر الخضم جيادها  * إذا ما تهـدت موجـه المتـلاطـم
تحيط بمنصور اللـواء مظفـر  * له النصـر والتأييد عبـد وخـادم
فيا ناصر الإسلام يا من بغـزوه  * علـى الكفر أيام الزمان مواسـم
تهنَّ بفتح سار في الأرض ذكره  * سرى الغيث يحدوه الصبا والنعايم

كما أرسل شريف مكة رسالة للسلطان محمد الفاتح ردا على رسالة السلطان المبشرة بانتصار المسلمين في القسطنطينية، حيث قال شلايف مكة في رده :”وفتحناها (أي رسالة محمد الفاتح) بكمال الأدب، وقرأناها مقابل الكعبة المعظمة بين أهل الحجاز وأبناء العرب، فرأينا فيها من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، وشاهدنا من فحاويها ظهور معجزة رسول الله خاتم النبيين وما هي إلا فتح القسطنطينية العظمى وتوابعها التي متانة حصنها مشهورة بين الأنام، وحصانة سورها معروفة عند الخواص والعوام وحمدنا الله بتيسير ذلك الأمر العسير وتحصيل ذلك المهم الخطير، وبششنا ذلك غاية البشاشة، وابتهجنا من إحياء مراسم آبائكم العظام والسلوك مسالك أجدادكم الكرام، روّح الله أرواحهم، وجعل أعلى غرف الجنان مكانهم، في إظهار المحبة لسكان الأراضي المقدسة”.

فتح القسطنطينية.. يوم تحققت البشارة النبوية وشاء الله تعالى أن يعز الإسلام والمسلمين على يد السلطان الشاب محمد الفاتح وجيشه الذي لم يرتكب المجازر ولم يدمر ولم يحرق.

فتح القسطنطينية.. يوم احتفت الكعبة المشرفة بهذا الفتح العظيم محتضنة المسلمين الذين فرحوا بنصر إخوانهم المسلمين في القسطنطينية وبرسالة السلطان محمد الفاتح الذي حياهم بها وزف لهم خبر الانتصار.

إن النموذج الذي قدمه محمد الفاتح ومن معه، وكذلك كل عظماء تاريخنا الإسلامي العظيم الذي لم يكن يفرق بين الأعراق والقوميات، هو النموذج الإسلامي الذي يحتاجه المسلمون اليوم ليستعيدوا ما فقدوه من عزة وقوة، فالعزة والقوة لا تأتي بالخصام والتخوين والتفريق والتكفير والقتل والظلم وإصدار الفتاوى الملونة، واعتبار كل فئة من المسلمين نفسها أنها هي الناجية صاحبة الحق واعتثادها أن “بقية المسلمين درجة ثانية”.

الأمر ليس صعبا.. وجزء كبير منه وضحه السلطان محمد الفاتح بنفسه في وصيته لابنه قبل وفاته:

“ها أنا ذا أموت.. كن عادلاً صالحاً رحيماً، وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز، واعمل على نشر الإسلام، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض، قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش، وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها.. وسّع رقعة البلاد بالجهاد واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد، إياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الاسلام، واضمن للمعوزين قوتهم، وابذل إكرامك للمستحقين.. وبما أن العلماء (يقصد في كل المجالات) هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.. حذار حذار لا يغرنك المال ولا الجند، وإياك أن تبعد أهل الشريعة (الحقيقيين يقصد أهل التقوى) عن بابك، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة، فإن الدين غايتنا، والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا.. خذ مني هذه العبرة: حضرت هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، وأحذ حذوي، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله ولا تصرف أموال الدولة في ترف أو لهو، وأكثر من قدر اللزوم فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك”.

زر الذهاب إلى الأعلى