قد يبدو عنوان هذا المقطع كــ“أفيش” لفيلم سينمائي، ولو كان الأمر كذلك فأظن مصمم “الأفيش” سيرسم سمكة قرش كبيرة تحاول أن تلتهم فتاة حسناء وهي تتعلق بذراع غواص فتي لينفذها من الوحش الغادر.
لكن فتاتنا في أعماق أكبر مما يمكن أن تغوصه الحسناء، والقروش كثيرة وجائعة، والكل يريد أن يلتهم نصيبه من الوليمة.
قدرت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية الغاز الكامن في أعماق شرقي المتوسط بـ 122 تريليون م3 من الغاز غير المكتشف في حوض تطل عليه سوريا ولبنان والكيان المحتل وغزة وقبرص، وليس ببعيد تنظر تركيا واليونان لتلك الوجبة المشبعة للجميع، فيما لو قسمت بنزاهة، لكن هناك تقف القروش تريد أن تلتهم الوليمة بقدها وقديدها
والأمر لا يقف على الغاز، بل إن الهيئة قدرت أن المسطح المائي يحتوي على ما يقارب الـ 107 مليارات برميل من النفط يمكن أن يستخرج بالإضافة لما تم ذكره من غاز، ولأن التقديرات أكدتها بعض الاكتشافات أخيراً فإن الكبار سال لعابهم من أجل أن يحظوا بنصيب الأسد من الطاقة وتصدير فوائضها للغرب المتلهف على محرك الحضارة ومبعث روحها، سواء في تحريك مصانعها أو إضاءة بيوتها وشوارعها أو الحفاظ على الإنسان من صقيع الشتاء القارس.
ولعل هذه الأسباب هي ما جعلت الغرب يفتح أبوابه أمام إيران وروسيا رغم تصنيفهما مارقتان وتهددان أمنهم، إلا أن المصلحة تفتح الأبواب المغلقة وتشرح الصدور الضيقة، ولقد زاد الاهتمام شرقي المتوسط بعد أزمتي مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران، والغزو الروسي لأوكرانيا، وهو ما أجلى شعبياً ما كان يخشى الساسة أن يظهر من سلوك حلفاء الطاقة ومورديها.
ومن ثم فإن غاز المتوسط ونفطه يحظيان بأهمية كبيرة بعد الأزمة الأخيرة مع الموردين الرئيسيين، روسيا وإيران، تكمن تلك الأهمية في قرب المصدر من المستهلك، وهو ما جعل المنتجين الكبار ككيان الاحتلال يسعى لمد أنبوب عبر اليونان للوصول لزبائنه في أوروبا، وهو ما جعل أيضاً دولة كتركيا تدخل على الخط وتوقظ الجميع من الحلم وترسم الحدود مع ليبيا لتقطع الخط على الخريطة قبل أن يمتد في الأعماق.
التكتلات الإقليمية شرقي المتوسط
هذا الصراع الذي بدأ صامتاً تحول رويداً، وبفعل المواقف السياسية والتحولات الإقليمية بعد الثورات المضادة على الربيع العربي، إلى صراع معلن تحمله تكتلات يحمل كل عضو فيها أهدافه مع اجتماع الكل على حصد المكاسب الأكبر من خلال تكتله، وفي سبيل ذلك رسمت حدود ثنائية وفي بعض الأحيان ثلاثية على عجل ومن دون نظر البعض إلى المآلات، فالهدف في بعض الأحيان هو قطع الطريق على المنافسين، وهو ما حدث في حالتي مصر وليبيا في اتفاقاتهما لترسيم الحدود، وكذا محادثات لبنان مع الكيان المحتل في ترسيم حدودهما، وإن لم ينتهوا بعد، إلا أن المؤشرات تظهر احتمالية خروج الاتفاق في غير مصلحة لبنان على الأرجح.
تلك التكتلات التي ضم أهمها، ما عرف بمنتدى غاز شرقي المتوسط والذي تأسس في القاهرة عام 2019 من أعضاء مؤسسين هم مصر وفلسطين والأردن واليونان وقبرص وإيطاليا والكيان المحتل وفرنسا، وينص ميثاق المنتدى على جواز التوسع في العضوية لأي من دول شرق البحر المتوسط المنتجة أو المستهلكة للغاز، أو دول العبور، ممن يتفقون مع المنتدى في المصالح والأهداف.. ونضع تحت هاذين الشرطين مئة خط، فالمصالح والأهداف بالأساس هي توزيع خيرات شرقي المتوسط على الدول الأكبر في الإقليم وحرمان أخرى، ولأن الدول الأعضاء في المنتدى مقسمة بحسب أوزانها النسبية، فوجود إيطاليا وفرنسا له هدفه، ووجود مصر وكيان الاحتلال ومن ورائهم اليونان له هدف، والباقون دورهم ثانوي، قد يعطيهم المخرج جملة في أوقات معينة في الفيلم، لذلك نجد أن أمريكا والاتحاد الأوروبي حاضرتان كمراقبتان دائمتان في التأسيس، مع الإمارات التي لم يتأكد وضعها القانوني.
هذا التكتل بشكله الذي أسس به وأعضائه، رأته تركيا كياناً خارقاً لمصالحها شرقي المتوسط، إلا أنها تعاملت معه بهدوء فقد نشرت صحيفة “حريات” في حينها، وهي القريبة من الإدارة التركية، أن مدير عام وزارة الخارجية التركية، تشاغتاي إرجيس، نقل إلى القائم بالأعمال المصري في أنقرة، رغبة بلاده توقيع اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع القاهرة، على غرار الاتفاقية الليبية – التركية، وهو ما قوبل بفتور من القاهرة، ورغم استمرار اللقاءات المخابراتية ولقاءات الصف الثاني على مستوى الخارجية للبلدين، تكرر الطلب التركي وتكرر الرد المصري بالفتور، ومضت القاهرة في توطيد العلاقات مع دول الحوض لاسيما اليونان، مع العلم بوضع العلاقات التركية – اليونانية، مع ذلك ظلت تركيا ترى في البيان التأسيسي للمنتدى باباً يمكن الولوج منه للمنتدى، لاسيما فيما نص عليه من.. (جواز التوسع في العضوية لأي من دول شرق البحر المتوسط المنتجة أو المستهلكة للغاز) هو ما جعل تركيا دؤوبة على استمرار سعيها لاختراق المنتدى سواء بالعضوية أو بتفكيكه.
وفي المقابل كان ترسيم الحدود الاقتصادية بين تركيا وليبيا، وهو ما حاولت دول المنتدى التشكيك فيه، بحجة أن تركيا لم توقع على قانون البحار، رغم اعترافها بترسيم الحدود بين من قبرص واليونان والكيان المحتل، والاحتلال لم يوقع كما تركيا على قانون البحار، وأطلقت تركيا سفنها للتنقيب عن النفط في البحر المتوسط قبالة سواحل جمهورية شمال قبرص “حليف أنقرة” كإجراء أمر واقع وورقة ضغط على دول المنتدى، ما جعل احتمالية الاحتكاك واردة لاسيما وأن تركيا كانت تطلق فرقاطاتها البحرية مع سفن التنقيب.
أنقرة تدير دفة الصراع
منذ 2013 بعد أحداث غيزي بارك وما بعدها، وصلت ذروتها عام 2016 وتحديدا قبل محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، بدأت تظهر عمليات “قرص الأذن” للإدارة التركية، بعد تحول سياسات تركيا تجاه محيطها العربي والأوروبي، وموقفها الداعم لثورات الشعوب ووقوفها ضد الثورات المضادة، والدول الداعمة لها، ما نتج عنه التضخم النقدي في تركيا، والذي تزامن مع عمليات عسكرية في شمال سوريا والعراق لحماية أمنها القومي، كما أعلنت الإدارة التركية في حينها، وتفاقم الوضع الاقتصادي العالمي بعد جائحة كورونا، والذي تستمر آثاره للآن والتي يرشح أن تتعدى العام الحالي إلى العام المقبل، لا سيما بعد الحرب في أوكرانيا، على الرغم من موقفها الرمادي بعض الشيء للحفاظ على مصالحها مع روسيا، لاسيما وأن تركيا أصبحت مركزاً لتوزيع الغاز والنفط بالمنطقة، وهو ما يجعل وضع تركيا معقداً، في علاقاتها مع جيرانها أو شركائها الاقتصاديين، وزبائنها في أوروبا، ومن ورائهم أمريكا التي تريد أنقرة أن تنسج علاقة جيدة مع إدارة بايدن الذي صرح تصريحات سلبية عن الإدارة التركية.
يوضع في مقدمة كل ما ذكر التضخم الذي وصل في تركيا ما يقارب الـ 40%، مع تصنيف عالمي للوضع الائتماني لتركيا متردي، وبعد أن خسر الحزب الحاكم الانتخابات في المدن الكبرى، ما يؤشر إلى تآكل الطبقة الوسطى، التي يعتمد عليها الحزب في التصويت، فالناخب التركي الذي صوت للحزب خلال هذه الفترة كان مدفوعاً بتحسن الوضع الاقتصادي ودخل الفرد، مع خدمات أفضل تقارب الممتازة مقارنة بما يقارب الـ 80 عام من حكم حزب الشعب الجمهوري المعارض الآن، وهو ما يخشى منه الحزب ورئيسه الذي تربع على مقاليد الحكم نحو عشرين عاماً.
ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية والرئاسية في تركيا، فقد تكون هذه العوامل كافية لأن يغير الرئيس أردوغان وحزبه الدفة غير معاند لاتجاه الريح لوصول أسرع لأهداف يحلم بتحقيقها في خطة طموحة لبلاده أعلن عنها لعام 2030 تلك الخطة بحاجة ماسة إلى شريان حياة اقتصادي، متمثلا في عودة الاستثمارات المسحوبة وإدخال مزيد من الاستثمارات تضاهي وتزيد على ما خرج خلال السنوات السبع العجاف السابقة، ما يعني لزوم إعادة العلاقات مع السعودية الكبيرة في الخليج، والإمارات المؤثرة حتى على الدولة الأكبر في الخليج ومعها مصر الدولة الأكبر في محيطها العربي، رغم ما تمر به من ظروف مدفوعة بسياسات النظام، وبالتوازي يجب غلق أو على الأقل تقليص المناكفات الخارجية، ما يعني تبريد المواقف مع اليونان وأرمنيا، وتحييد فاعل مهم في المنطقة، ويعد الفاعل الأهم والصامت في المنطقة.
زيارة ولي عهد الإمارات في حينها ورئيسها الآن محمد بن زايد لأنقرة الذي كسر حاجز الجفاء منذ 2011 وصولاً لذروته في 2013 كانت فاتحة لكتاب عنونته تركيا “علاقات جوار أكثر دفئا” بدأ فصله الأول مع وصول بايدن للبيت الأبيض، فالإدارة الأمريكية تريد تبريد المشاكل في الشرق الأوسط للالتفات للتنين الصيني، وهو ما تماهت معه أنقرة مستفيدة من أضواء الجوار تحت الفكرة، وفي النهاية فإن التماهي مع التوجه الأمريكي سينتج عنه مصالح أكبر في ظل حالة شبه العزلة التي عاشتها تركيا في السنوات الأخيرة.
ثم تلت زيارة الشيخ محمد بن زايد زيارة رئيس الكيان المحتل لتجري مياه في نهر علاقات كانت شبه مقطوعة بعد حادثة مافي مرمرة، وهو ما مهد لزيارة وزير خارجية تركيا لتل أبيب ثم الضفة إيذاناً بدور مختلف لأنقرة في القضية الفلسطينية، قد تكون غزة في مرتبته الثانية، مع الإبقاء على الدور الإنساني اللا مقطوع منذ وصول العدالة والتنمية لسدة الحكم في تركيا، وليعلن رئيس وزراء الاحتلال دعوته للرئيس أردوغان لزيارة تل أبيب ما يعني علاقات كاملة أكثر هدوء، إذا مرت مسيرة الأعلام يوم الأحد القادم بهدوء.
وإن كانت زيارة الرئيس التركي للسعودية قد تأخرت، إلا أنها كانت منتظرة من ولي العهد، الذي رغب في إنهاء واحدة من أكبر الأزمات التي أضرت بالبلدين بعد فترة من الشد والجذب وصلت قمتها بأحداث القنصلية السعودية في إسطنبول، ومن المنتظر أن يزور ولي العهد أنقرة خلال الشهر القادم بحسب ما أعلن، ما يعني تطبيعا كاملا وعودة استثمارات تحتاجها تركيا في هذا الوقت العصيب الذي يعيشه العالم.
وبما أن الإمارات والسعودية قد طبّعا، فإن القاهرة لا محالة قادمة، وهو ما تحدثت عنه الأنباء أخيراً من أن وزير خارجية النظام في مصر سيزور أنقرة الشهر القادم في زيارة مبرمجة، يمكن أن تليها زيارة على مستوى أعلى، وهو ما أعلنه الرئيس أردوغان نفسه بعد زيارة السعودية، بأن لا مانع لديه من زيارة القاهرة، وهي إن كانت ضربة للمعارضة المصرية، إلا أنها ضربة أيضاً للمعارضة التركية التي طالما لامت إدارة أردوغان بالاصطفاف مع المعارضة المصرية ما أفقد تركيا مكاسب مؤكدة من فتح علاقات مع النظام في مصر.
هذه العلاقات المؤثرة والمتحولة تضمنها تبريد الحرب الكلامية مع فرنسا واليونان، وإن كانت الأخيرة تستخدم كبيدق في ملفات أخرى، وهو ما نشهده الآن من تصعيد في بحر إيجة تزامناً مع مطالبات تركيا “المشروعة” بتوفيق أوضاع مع السويد وفنلندا قبل دخولهما حلف “ناتو” مع ذلك فإن الاختراقات التي قامت بها أنقرة خلال الفترة الأخيرة ستجعل من عضو منتدى غاز المتوسط، أسيرة للإجماع في المنتدى بتهدئة الأمور مع تركيا.
هل تتمكن أنقرة من الإبقاء على حالة الهدوء؟
إن ميدان العمليات شرقي المتوسط والذي يضم حوالي 47% من احتياطي النفط و41% من احتياطي الغاز في العالم، زاد أهميته ومن ثم سخونته في ظل الآمال الجيواقتصادية التي يحملها في أعماقه بالنسبة للدول المطلة عليه، لذا فإن الصراع على استغلال ثروات الهيدروكربون والتنافس على طرق تصديرها والتزاحم على حصص الأسواق الخارجية، لن يتوقف، بل سيضم إليه فاعلين جدد، بعد الأزمة الأوكرانية وقطع روسيا الغاز عن فنلندا، هو بمثابة رصاصة استكشافية لمواقف باقي دول أوروبا التي رضخت “مرحلياً” لدفع مشترياتها من الغاز الروسي بالروبل.
إن سعي تركيا العدالة والتنمية لأن تكون نقطة مركزية لتوزيع الغاز والنفط من الشرق (روسيا، إيران، العراق، أذربيجان، وأخيراً مشروع لنقل النفط الإماراتي) هو حلم تحقق الكثير منه، لكنه يصطدم مع حلم تل أبيب أن تستحوذ على هذا الدول، وحلم القاهرة أيضا أن يكون لها دور أكبر من خط سوميد لاسيما وأنها بدأت بالفعل أن تسيل غاز الكيان المحتل في ادكو وإعادة ضخه ليكون جاهز للتصدير من قبل الاحتلال، مع أنبوب سيسمح بزيادة الإمدادات إلى مصر بما يتراوح بين 3 و5 مليارات متر مكعب سنوياً، وسوف تستخدم هذه الإمدادات في زيادة صادرات الغاز الطبيعي المسال من مصر إلى أوروبا وآسيا.
وليس ببعيد من هذا الحلم تقف اليونان التي تترقب من أجل أن تكون محطة مهمة لنقل غاز الاحتلال قبل ترسيم الحدود الاقتصادية بين تركيا وليبيا، وعلى ذكر ليبيا، فإن التوافقات التي تمت لتدفئة العلاقات مع الخليج ضمت تبريد العلاقات مع التيار الإسلامي في المنطقة، ما يعني، وإن كان مستبعدا، تجميد تفعيل اتفاق ترسيم الحدود التي تمت في ولاية السراج، في ظل الدعم الإقليمي لباشاغا، وهو ما يمكن تفسيره بأن تركيا ستواجه ورقة ضغط بليبيا بعد أن كانت ورقة ضغط لها.
على كل فإن كل شيء متغير في السياسة، فلا أصدقاء دائمون وما حدث من تحولات في المنطقة تصب شرقي المتوسط كلها مواقف مدفوعة بمصالح، وعليه فإن بقاء العلاقات مرهون ببقاء المصالح، غاز ونفط شرقي المتوسط يكفي لتلبية حاجة أسواق أوروبا لمدة 30 عاماً، والعالم لمدة عام واحد بحسب تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، فهل يعني ذلك أن هذه العلاقات الدافئة ستستمر 30 عاماً، لا يمكن أن أقطع ولا يقطع أحد بذلك في ظل التغييرات القوية المرتبطة بتحولات المواقف وصعود الصين وطموح روسيا، وآمال تركيا العدالة والتنمية، وأهداف الاحتلال ودعم أمريكا.. لكن على الأقل وبالنسبة لتركيا، فإن تمرير عام 2023 هو هدف مرحلي تسعى لتحقيقه، وبعده لكل حادث حديث.