في تغريدة على حسابه في “تويتر”، كتب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قائلا إنه “خبر رائع ونحن نستهل قمة الـ(ناتو)”.
هكذا رأى جونسون بدء مسيرة انضمام السوريد وفنلندا للحلف انتصارًا بعد أن وافقت تركيا على تمرير عضويتهما في الـ”ناتو” بعد توقيع اتفاق ثلاثي بينهما وبين تركيا.
مخاوف وضغوط
أربعة أشهر ونيف على العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، قضمت فيها روسيا مساحة لا بأس بها من الأراضي الأوكرانية، وهددت العاصمة كييف أكثر من مرة، وتغيرت تكتيكات موسكو مرات بين الاجتياح الشامل والضربات الخاطفة، لكن القاسم المشترك بين كلا التكتيكين هو تدمير البنية العسكرية والمدنية لأوكرانيا، التي قاومت بشرف، وغرر بها بمزاعم الدعم الغربي الذي لم يصل لمستوى يجعل الأوكرانيين يصمدون أمام الآلة الحربية الروسية الجبارة، بحجة أن كييف ليست عضوًا في الحلف العسكري الغربي المنشأ على خلفية الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفيتي ووريثه روسيا الاتحادية.
هذه التبريرات جعلت كل من فنلندا الجار لروسيا ومن خلفها السويد تهرعان للانضمام للحلف حتى لا يصبهما ما أصاب جارتهما أوكرانيا من الدب الشرس، وفي مقال (أوكرانيا حرب الفرص) شرحنا في أجزائه الثلاثة، أهداف الفاعلين والمتأثرين في تلك الحرب التي انطلقت بهدف، حرفته الظروف وعدم القراءة للواقع على النحو الذي يمكن من خلاله أن تحقق روسيا، مطلقة الرصاصة الأولى، أهدافها منها، فحتى إصرار موسكو على تسمية ما يحدث في أوكرانيا بأنه عملية عسكرية، هو هروب من الواقع في حقيقة تؤكد أن استخدام كل الأسلحة باستثناء النووي والدفع بكل التشكيلات العسكرية، لا يمكن إدراجه إلا تحت بند الحرب الشاملة، وحينما يصاحب ذلك اجتياح لكل بقاع أوكرانيا، فإن ذلك يصنف بالغزو.
كل ذلك شكّل ضغوطًا مدفوعة بمخاوف لكل من السويد وفنلندا، تضخم مع الدفع الأمريكي لترسيخ فكرة الحرب العالمية الثالثة، واجتياح روسيا لكل أوروبا، واستخدام الآلة الإعلامية لتصوير بوتين على أنه هتلر القرن الواحد والعشرين، وفي ذلك أهداف ترمي لها أمريكا، ذكرناه في الأجزاء الثلاثة للمقال المذكور، لكن الغريب أن قادة أوروبا مرغمون على تصديق الكذبة، وذلك لتأثرهم بحالة الرهاب الشعبي من جهة، والأزمة الاقتصادية التي خلفتها الحرب بين أكبر موردين للطاقة والغذاء في العالم من جهة أخرى، ولا يخفى أن العقوبات الانتقامية التي فرضتها أمريكا ومن ورائها حلفاؤها من الغرب على استحياء قد زادت من وطأة هذه الآثار مما لا شك فيه، وفي ظل كل هذه المخاوف والضغوط، استفادت تركيا من لائحة الـ”ناتو” في وقف طلب السويد وفنلندا للانضمام للحلف، لاسيما وأن تحفظاتها مشروعة ومتوافقة مع روح الحلف العسكري الأمني، وكان القناص بالمرصاد وأوقع الجميع بطلقة واحدة، يرجى الرجوع لمقال (أردوغان قناص بدرجة رئيس دولة)، وكيف استطاعت أنقرة الاستفادة من مخاوف ليس السويد وفنلندا فقط بل الغرب الذي يرى أن يبدأ الحرب المحتملة من الخطوط الأمامية ولا ينتظر وصول النيران إلى ذيل ثوبه.
خطة اللعب
قالت تركيا إنها قد تدعم مساعي السويد وفنلندا للحصول على عضوية حلف الـ”ناتو” وإنها تتفهم المخاوف التي تدفعهما إلى السعي لهذه العضوية.
في مؤتمر صحفي أوضح وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، بعد جلسة وزراء خارجية الحلف، أن مطالب فنلندا والسويد الحصول على عضوية الحلف رداً على الغزو الروسي لأوكرانيا، مشروعة وأن تركيا لن تقف أمامها، وأن استخدامها حق الاعتراض (الفيتو) إنما جاء لوجود مخاوف من قبل تركيا على انضمام البلدين إلى الحلف، وعلى الأعضاء المطالبين بالانضمام تقديم إجابة شافية عليها.
وبعد تصريحات تشاويش أوغلو جاءت تصريحات أكثر قوة من رئيس الدولة وقبل أيام من قمة الـ”ناتو” جاء فيها أن تركيا ليست ضد توسيع الحلف لكنها ترفض ضم دول تدعم التنظيمات الإرهابية، ليؤكد أن المبادئ ومنطلقات الحلف هي الدافع وراء موقفه، التي من ضمنها محاربة الإرهاب، ويؤكد على أن تركيا “الجديدة” لن تتنازل أبدا عن مبادئها ولن تقبل بانضمام أي دول للحلف مالم تلبى شروطنا، ليهرع إلى أنقرة رئيس فنلندا ورئيسة وزراء السويد، ويسبقهما رئيس وزراء اسبانيا ليثنيا أردوغان عن موقفه، وتتواصل اتصالات الغرف المغلقة والمفتوحة بين به الرئيس الأمريكي والرئيس التركي وبين قادة الاتحاد الأوروبي وأنقرة، وأمين عام الحلف لإثناء أردوغان عن موقفه مع إعلان عن تفاهمات لم تقرها أنقرة، ويواصل القناص الضغط حتى آخر لحظة، وقبيل صعوده للطائرة التي ستقله إلى اجتماع قادة الدول الأعضاء في الحلف، كان اردوغان متمسكاً بموقفه، وقال للصحفيين إنه ذاهب لمدريد لكشف الحقائق بالمستندات، ورتب أمين عام الحلف اجتماعاً لأردوغان مع قادة السويد وفنلندا، ولم يخرج أردوغان أدلته للعلن، لكنه وفيما يبدو عرضها في اجتماعه الثلاثي كورقة ضغط أخيرة قبل أن يخرج الثلاثة ومنسق الاجتماع، إلى الصحفيين باتفاق ثلاثي يزيل فيتو تركيا مقابل تعهدات تعد انتصاراً لأنقرة.
سهم واحد وعدة أهداف في مدريد
بعد اجتماع ليس بالقصير، رتبت أوراقه من عدت دول خرج الأمين العام للـ”ناتو” والرئيس التركي والرئيس الفنلندي ورئيسة وزراء السويد ووزراء خارجيتهم ليعلنوا التوصل لاتفاق يمهد لانضمام كل من السويد وفنلندا لعضوية الحلف، وفي التفاصيل تتعهد كل من السويد وفنلندا بالتعاون التام مع تركيا في مكافحة التنظيمات الإرهابية، المتمثلة في تنظيم PKK وتنظيم فتح الله غولن وتنظيمي PKK/PYD وعدم توفير الدعم لهم بأي صورة، وتعهد كل من السويد وفنلندا بإدانة كافة هجمات التنظيمات الإرهابية ضد تركيا بشكل واضح وصريح، وتتبادل الدول الثلاثة المعلومات الاستخباراتية، في هذا الشأن، وغيره.
كما تتعهد كل من السويد وفنلندا بتسليم المطلوبين لتركيا وفقا لتسليم لتشريعات الاتحاد الأوروبي، كما تعهدتا بدعم تركيا في الانضمام لاتفاق PESCO الخاص بالتعاون الدائم في مجال سياسات الأمن والدفاع في الاتحاد الأوروبي. وفي المقابل تتعهد تركيا دعمها التام للسويد وفنلندا في مواجهة التهديدات التي تطال أمنهما القومي.
هذه المذكرة، أو الاتفاق، وما تضمنت من إنجازات كبيرة تؤكد على تمكين تركيا حفظ أمن تركيا، وتوجه ضربة للمنظمات الإرهابية، إلا أنها ترسخ الوجود التركي في الجسد الأوروبي رغم، رفض أوروبا، أو تمنعها عن أن تصبح تركيا جزءًا من ذلك الجسد، إذن فإن هذه المذكرة، وهذه النجاحات لم تكن نتاج جهد دبلوماسي وسياسي يدرس لحكومات طاب لها الانبطاح والانصياع، بل هو سهم مضيء أطلقته أنقرة في فضاء عواصم دول الحلف، بأن تركيا التي وصفها الرئيس أردوغان في أحد خطبه في سياق تعليقه على طلب السويد وفنلندا الانضمام للحلف بأنها “الجديدة” أي ليست تركيا التي اعتاد الغرب أن يأمرونها فتطيع، ويسلبون حقوقها أو يهضمونها وتتقبل.
لقد ضرب سهم القناص أردوغان عدة أهداف برمية واحدة، إذ ضرب المنظمات الإرهابية قبيل العملية العسكرية التي ينوي إطلاقها خلال أيام شمالي سوريا، ويحفظ أمن بلاده من جهة الخارج ويقلل الثغرات، ويطمئن الجبهة الداخلية والمواطن الذي يقاتل ابنه وكلاء سماسرة الموت في جبال تركيا والعراق وصحارى سوريا، هذا المواطن الذي يحتاجه القناص أردوغان بعد أشهر ليؤكد ثقته فيه وفي حزبه الذي يحمي وطنه ويحافظ على أرواح شعبه وشبابه، يصوت له لأنه وفر له أحدث الأسلحةـ لاسيما وأن الاتفاق الثلاثي سبقته ترتيبات وترضيات غربية، قد تشمل طائرات F-16 ، ضرب سهم القناص طريقاً دبلوماسياً بين القوى الكبرى بخلق استراتيجية توازن بإبقاء قنوات الاتصالات مفتوحة مع جميع الأطراف، في ظل امتلاك أوراق الضغط تارة والمناورة تارة أخرى، وفي حالة انعدامها يتم صناعتها من خلال تحين الفرص والانقضاض عليها.
لا شك أن تركيا لم تعد تلك الدولة المكلفة بحراسة الجناح الجنوبي الشرقي لحلف الناتو ولم تعد ترانزيت دوائر استخباراتها، بل غدت في مصاف اللاعبين الكبار مثلها مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، لقد استطاع القناص أردوغان وفريقه، رسم ملامح السياسات وحدود التعامل كواحدة من الدول الفاعلة في محيطاتها الممتدة في أوروبا والقوقاز وحوض البحر المتوسط، لتخرج من هذه الفضاءات إلى فضاءات العالم في قضاياه الكلية، ما كان ذلك ليكون إلا بصناعة رؤية استراتيجية والعمل عليها من خلال خطط عملية تلمس الواقع وتتطلع للمستقبل.