
التصرفات والأفعال والقرارات تدور كلها في فلك “النفع والضرر“، وبين المُحقّق وبين المُحتمل منهما “فالضرر أو النفع المُحقّق” يبنى على اليقين والجزم، أمّا “الضرر أو النفع المُحتمل” يُبنى على الظنّ والاحتمال، الأمر الذي ينعكس على تقرير المسؤوليّة القانونيّة أو الأدبيّة أو الأخلاقيّة من عدمِها، ولأن الضرر أحد أركان المسئولية فلابد من توفّر عدد من الشروط فيه حتى يستحقّ المُتضرِّر التعويض عنه، وحتى نوضّح هذه المفاهيم لابد من تعريف بعض المصطلحات ومنها:
تعريف الضرر: هو الأذى الذي يلحق بشخص أو جماعة ما، نتيجة المساس بحق من حقوقها وربما يكون الضرر مادي أو معنوي.
تعريف الضرر الاحتمالي: هو الضرر الذي يبنى على أساس افتراضات وتكهنات غير حتمية الحدوث.
شروط الضرر الموجب للحكم بالتعويض “المادي والمعنوي” أن يكون الضرر محققاً، وأن يكون الضرر مباشرا وأن يكون الضرر شخصياً، وأن يقع الضرر إما على حق أو على مصلحة مشروعة للمضرور.
وحيث أن القاعدة الفقهية والقانونية تنصّ على أن “الأحكام تُبنى على الجزم واليقين لا على الظن والاحتمال“، وبما أننا في معرض تقييم آثار التصريحات الصادرة عن معالي وزير الخارجيّة التركيّة مولاود تشاويش أوغلو والحُكم عليها حُكماً عادلاً ومنصفِاً، الأمر الذي يوجب علينا تطبيق القواعد الآنفة الذكر حتى يمكننا بناء مواقفنا منها بشكل صحيح وبما يحفظ مصالحنا ويمكّننا من حماية ثوابتنا.
فما صدر حتى الآن هو مجرّد تصريحات إعلاميّة تحمل رسائل سياسيّة لجميع الأطراف السوريّة “نظام ومعارضة وثورة“، والإقليميّة والدوليّة للتذكير بحالة “جمود عمليّة الحل السياسي الدولي” في سوريا، وتعثّر المفاوضات بين المعارضة والنظام، الذي يُنذر بقرب انهيارها، وبالتالي انهيار منظومة الحل الدولي بكاملها، ما سيؤدي إلى نتائج كارثيّة على الشعب السوريّ وعلى المجتمع الدوليّ.
التصريحات هي دعوة ضمنيّة لكل الأطراف لتحمّل مسؤولياتها اتجاه الشعب السوريّ، وفي هذا منفعة للشعب السوريّ من خلال “إعادة طرح القضيّة السوريّة” أمام الجميع كأولويّة قصوى بعد أن تحوّلت إلى قضيّة هامشيّة على المستوى الدوليّ.
والمنفعة الأخرى تجلّت في ردود الأفعال على التصريحات والتي كانت أكبر بكثير من ضررها، باعتبار أنها “وحّدت كلمة الأحرار على اختلاف مرجعياتهم وتحزّباتهم واصطفافاتهم بما فيهم المحسوبين على تركيّا برفض أيّة “مصالحة” مع النظام وبالتالي أي حل سياسي يؤدي إلى ذلك، وجدّدوا عهدهم بالالتزام بثوابت الثورة بعد أن ظنّ الكثير أنها نُزِعت من قلوبهم، ورغم مئات المبادرات والمشاريع لتوحيدهم وجمعهم على كلمة واحدة التي باءت بالفشل.
المصالحة التركيّة مع النظام “إن وقعت ” شأن سيادي تحكمه مصلحة تركيا الوطنيّة بالدرجة الأولى وبالتالي فإن “ضررها ونفعها” يعود عليها، وهي من خلال الواقع نراها بعيدة جداً بسبب انتشار الجيش التركي في سوريّا وتعزيز قواته هناك يوميّا، وهو الأمر الذي يعتبره النظام السوري “احتلال“، ولا يمكن لتركيّا التسليم للنظام بذلك لما يترتب عليه من آثار قانونيّة تفرضها المواثيق والاتفاقيّات الدوليّة الناظمة لأحكام “الاحتلال والعدوان” التي تُرتِّب على تركيا دفع تعويضات مالية عن كل الأضرار التي لحقت بالأراضي السوريّة، و كذلك تحويل جنودها الذين قتلوا في سوريا إلى قوات عسكريّة محتّلة “تمنح عصابات الأسد” حقّ مقاومتها“، و اعتبار الجيش الوطني “مرتزقة” وما يترتب عليه من آثار قانونيّة من رفع الحماية “القانونيّة” الدوليّة عنهم باعتبارهم “ثوار” ورفع الحماية الدوليّة عن المدنيين باعتبارهم “متمردين على السلطة الشرعيّة”، ولا اعتقد أن الحكومة التركيّة غافلة عن هذا وبالتالي فهي تعلم علم اليقين نتائجها التي لا طاقة لها بتحمّلها، أو بالأحرى ليست مضطرّة لذلك.
الحل في سوريا برعاية أمميّة ولا يمكن لأي حلٍ خارج إطار الأمم المتحدة أن ينجح لأنه سيفتقد للغطاء الأممي المرجع المُلزم لكل الأطراف باعتبار أن الأمم المتحدة تمثِّل الإرادة الدوليّة مجتمعة، ومؤسسات ومنظمات وهيئات الأمم المتحدة هي الكفيلة بتنفيذ أية حلول وحمايتها.
وبناء عليه لا يمكن حلّ مشكلة اللاجئين أو العودة إلى سوريا إلا من خلال الحلّ النهائي، كما أنه لا يمكن لأيٍ كان فرض حلول “إذعان” على الشعب السوري لأن الحلول تفرض التزامات قانونية بين الدول تفرض عليها الاحترام المتبادل، وبالتالي لا يمكن لأحد إلزام الشعب بما يخالف ثوابته أو ينتقص من حقوقه.
المظاهرات وردود الفعل أثبت بالدليل القاطع أن علاقة الثورة مع تركيا مصيريّة بدليل “ارتفاع حدة رد الفعل” حيث عبّرت عن حجم الأمل المعقود على الحكومة التركيّة وعن حجم الثقة المكنونة بها، وبدليل عدم رؤية هذا المستوى من ردود الأفعال على تطبيع الدول العربيّة علاقاتها مع النظام ولا محاولات الحكومة اللبنانية وربما الأردنية إعادة اللاجئين إلى سوريا.
كما أثبتت الأعوام الماضيّة أننا أصبحنا قضيّة أسياسية في السياسة التركيّة سواءً على مستوى الموالاة أو على مستوى المعارضة، ومن مصلحتنا الوقوف موقف متوازن يضمن استقرار الوضع الداخلي في تركيّا، واستقرار أوضاع اللاجئين إلى حين الوصول إلى حلً عادلٍ يضمن لنا العودة الطوعيّة الآمنة، وعدم التسرّع باتخاذ أية مواقف تصعيديّة تؤدي إلى زعزعة استقرار البلاد وبالتالي تهديد الأمن القومي الذي يضطر الأتراك ويُبرّر لهم إعادتنا بالطريقة التي تحقق لهم استقرار بلدهم، ما يزيد المناطق المحررة إرهاقا على كافة المستويّات التي لا يمكن أن تتحمّلها مهما عظُمَت الإمكانيّات المتوّفِرة.
إن الخاسر الوحيد من هذه التصريحات هي معارضة “الأمر الواقع” المُتمثّلة بهيئة التفاوض واللجنة الدستوريّة التي سيطرت على القرار بعد تحجيم دور الائتلاف الوطني المحسوب على تركيا، لصالح منصات “موسكو والقاهرة وهيئة التنسيق المحسوبة على موسكو وعلى النظام إلى حدٍ ما“.
الحل أمام قوى الثورة الحقيقية التي ظهرت في الساحات والتي تمتدّ إلى كل خيمة وإلى كل نقطة من نقاط الرباط هو النهوض من جديد ومراجعة تجاربنا السابقة والعبور إلى قدرنا المحتوم المحكوم بـ“وحدة المصير والهدف” بقلبٍ واحدٍ وكلمةٍ واحدةٍ ويدٍ واحدةٍ، وبناء علاقاتنا من جديد مع الأصدقاء والحلفاء على قاعدة الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
وعلى الائتلاف الوطني إعادة قراءة ما جرى والبناء عليه لإجراء عمليّة إصلاح حقيقي تعيده إلى حضن الثورة، ومراجعة “عمليّة التفاوض” من جذورها حتى الآن والأخذ بعين الاعتبار الثوابت التي أرستها مظاهرات الأحرار بالأمس.
الخلاصة: ما زالت آثار تصريحات معالي الوزير ضمن حدودها الطبيعيّة كمناورة سياسيّة، ولم تتعدّاها إلى القيام بخطوات فعليّة استثنائيّة خارج إطار” خارطة الطريق الدوليّة للحلّ في سوريا“، وما زالت العلاقة بين الجيش التركي وبين الجيش الوطني قائمة لم تتبدّل فيها المعطيات بما يؤشر نحو دفعهم لمصالحة مع النظام، ومازالت الصراعات بين الدول المتصارعة في سوريا على أشدّها.
كما أنه لم يطرأ أي تحوّل حقيقي فعلي مباشر مع النظام السوري باعتبار أن التعاون الأمني موجود من قبل الثورة ولم ينقطع حتى اليوم ولن ينقطع إلا عند إسقاط النظام لينتقل إلى التعاون مع السلطة القادمة، ما يجعل ضرر هذه التصريحات يدور في فلك الضرر الاحتمالي، وأن الضرر الوحيد المُحقّق الذي تسببت به هو الضرر المعنوي الذي تجلّى بالشعور بالخُذلان وخيبة الأمل وتخلّي آخر الأصدقاء عن الشعب السوري، الذي أحسّ بها الأخوة في تركيا ليسارعوا إلى التعويض عنه وجبر الخواطر بالتأكيد على التزامهم المستمر بالوقوف إلى جانب الشعب السوري حتى تتحقّق له مطالبه العادلة.
وكما أسلفنا فقد أثبتت الأعوام الماضيّة أن قدر الثورة السوريّة محكوم بالعلاقة المصيريّة مع العضيد الأخير لها في هذا العالم (تركيا)، وعلينا أن نعيَ ذلك ونعزّزها بما ينفعنا وينفعه ويحقِّق مصالحنا ومصالحه على قاعدة وحدة العدو ووحدة المصير.. ومصلحتنا ومصلحته ومصلحة المجتمع الدولي تكمن لزوال الأسد ونظامه من حياة السوريين.