
لقد شهد ميدان تقسيم السياحي في مدينة إسطنبول يوم الأحد الماضي عملا إرهابياً عبر تفجير قنبلة بين جموع الناس التي اكتظّ بها الميدان، وقد أعلنت السلطات التركية القبض على ” 46 ” مشتبهاً بهم ومن بينهم الشخص الذي يشتبه في أنه زرع القنبلة التي خلفت 6 شهداء و81 جريحا، واتّهم السيّد وزير الداخلية سليمان صويلو كلّاً من حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي بالوقوف وراء التفجير.
وبعيداً عن الخوض في تفاصيل التحقيقات الجنائيّة و التي تُعتبر نتائجها هي الفيصل والحجة المُعتبرة في تحديد الفاعلين و مسؤوليتهم ومسؤوليّة من يقف ورائهم ، و لكثرة التحليلات والتأويلات التي تدور في فلك رفض الرواية الرسميّة والتشكيك بها، وبين البناء على نظريّة المؤامرة و تحميل الحكومة التركية مسؤوليّتها لتحسين وضعها الانتخابي، و التركيز من قبل شريحة من السوريين على لون وشكل المتّهمة الرئيسيّة في تحديد جنسيتها أو نفيها بناءً على اللون و الشكل في مقاربة تشكيكيّة أخرى لنفي مسؤوليتها عن هذا العمل الإجرامي، حيث يجمع هؤلاء هدف واحد وهو التشكيك بمصداقيّة الأمن التركي بعيداً عن الإنصاف أو اعتماد التحليل المنطقي.
يقول المثلُ العربي كاد المُريبُ أن يقولَ خذوني حيث يُضرب هذا المثل على مُرتكِب الخطأ الذي أوشك من كثرة شكِّه بنفسه، ومن كثرة خوفه أن يفتضح أمره، أوشك أن يقول: أنا المخطئ فخذوني.
وفي علم التحقيق الجنائي وعند التحقيق في الجرائم السياسيّة أو الجرائم الإرهابيّة يتم الأخذ بعين الاعتبار ظرفي الزمان و المكان اللّذان يُشكّلان قرينة أوليّة لجمع جملة المعطيات التي تُحدّد الاحتمالات الجُرميّة التي يجب على المُحقّق الموازنة بينها من خلال مقاطعة جملة من المعطيات السابقة على مدار فترة زمنيّة سابقة وربطها بالمعطيات الأوليّة التي وُجدت أثناء ارتكاب الجريمة و هي في هذه الجريمة “هويّة وانتماء” المُتهمّة الرئيسيّة وخط سير دخولها إلى تركيا من مدينة عين العرب إلى إسطنبول ومكوثها هناك منذ عدّة أشهر.
لقد أصبح من المُسلّمات بأن التنظيمين المذكورين هما أحد أذرع النظام السوري في مواجهة الثورة وتركيا وهذا الآمر ليس جديداً بل يمتد إلى عهد حافظ أسد الذي فتح لها المعسكرات وإمدادها بالمال والسلاح واستخدمها في زعزعة استقرار تركيا الأمر الذي كاد أن يتسبّب بحرب بين البلدين لولا تدخّل بعض الدول لتنتهي الأزمة بتسليم زعيمها للسلطات التركيّة، واليوم فإن القيادة الحاليّة للتنظيمين تلعب نفس الدور وبإدارة بشار أسد وشقيقه.
كما أنه من المعلوم أنّ هناك انقسام في أجهزة استخبارات النظام السوري فمنها ما هو مرتبط ببشار أسد وشقيقه ماهر ومنها ما هو مرتبط بالحرس الثوري الإيراني ومنها ما هو مرتبط بقيادة القوات الروسية في حميميم ، و أنّ جهاز أمن الدولة هو من تعوّل عليه روسيا في تحقيق المصالحات بدليل قيادة اللواء حسام لوقا مدير المخابرات لمراكز المصالحات والتسويات، بينما كان نائب قائد الفرقة الرابعة وباقي أجهزة الاستخبارات على الهامش واقتصر دورها على تنظيم سوق الفارّين من الخدمة الإلزامية أو المتخلفين عنها إلى المعسكرات وشعب التنجيد.
وقد جاءت هذه العمليّة الإرهابيّة بعد سلسلة من الأحداث تُعزّز رواية السلطات التركيّة ومنها مطالبة تركيا دول الاتحاد الأوروبي بوقف دعمها للتنظيمين المذكورين ووجوب تصنيفها كمنظمات إرهابيّة ووضعهما على لوائح التصنيف الذي لاقى تعنّتاً أوروبيّاً الأمر الذي دفع تركيا للاعتراض على انضمام كل من فنلندا والسويد إلى حلف الناتو لحين الاستجابة للمطالب التركيّة بهذا الشأن حيث نجحت تركيا في دفع السويد للتوقيع على اتفاقيّة بهذا الخصوص منذ أيام، كما تزامنت مع أخبار حوار حزب العدالة والتنمية على الحوار مع حزب الشعوب الديموقراطي المعارض المحسوب على الأكراد حول التعديل الدستوري المقترح، ومع زيارة السيد وزير الداخليّة التركي إلى المناطق المُحرّرة لتدشين آلآف الوحدات السكنيّة التي سيتم توطين اللاجئين العائدين طوعيّاً فيها، وتدشين مشاريع البنى التحتيّة والمدن الصناعيّة وفتح باب الاستثمار في هذه المناطق.
وعلينا ألّا ننسى المخاوف التي أثارتها لدى هؤلاء المفاوضات الأمنيّة بين الاستخبارات التركيّة وبين استخبارات النظام كمدخل لإعادة تقييم العلاقات الدبلوماسيّة بينهما والتي ترتكز على ركيزتين رئيسيّين هما:
أولاً: ضمان الأمن القومي التركي من خلال إبعاد التنظيمين المذكورين اللّذين يهدِّدان الأمن القومي التركي عن الحدود التركيّة إلى عمق ما بعد الـ 35 كم، وعدم التعرّض أو استهداف مناطق خفض التصعيد.
ثانياً: ضمان عودة اللاجئين ” طوعيّاً ” في سياق خارطة الحل السياسي التي ترعاها الأمم المتحدة، أي عبر تطبيق القرارات الدوليّة ذات الصلة في الشأن السوري ومنها القرارين 2118 لعام 2013 و2254 لعام 2015.
واعتقد أن المعيار الأساسي في تقييم العلاقات بينهما هو مدى قدرة النظام على تحقيق مطلب تركيا منه بإبعاد التنظيمين المذكورين، وهذا يعني إما أن يكون عبر تعديل شروط اتفاقية أضنا بحيث تحصل تركيا على مستند قانوني لشنّ عمليتها العسكريّة المؤجّلة بسبب رفض الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين الداعمين لمشروع قسد، والرفض الروسي الإيراني.
وإما أن يقوم النظام بمواجهتهما مباشرة مما سيضعه بمواجهة الولايات المتحدة وحلفائها، وهو ما تحاول تركيا تحقيقه لأنها لم تستطع مواجهة تلك المنظمات بسبب التعنّت الأمريكي الأوروبي وبسبب استغلال الروس والإيرانيين والنظام لاي عملية عسكرية تركية ضدهم لنقض اتفاقية خفض التصعيد.
وعليه فإن الأمر مفتوح على الاحتمالات التاليّة:
– إذا استجاب النظام للمطالب التركيّة سيجد نفسه في مواجهة الولايات المتحدة مباشرة وهذا الأمر لا قِبل له بتحمّل نتائجه لأنه سيؤدي إلى توريط روسيا وإيران معه في المواجهة معها وكلاهما يحاولان تجنّبه منذ غزوهما للأراضي السوريّة.
– أمّا إذا استجاب النظام للضغوط الروسيّة للقبول بمشروع قسد وضم قواتها إلى قواته سيصبح هدفاً مباشرا للأتراك. وإذا لم يستجب لتلك المطالب ستضغط روسيا عليه عبر تهديده بسحب قواتها من شرق الفرات وتركهما لمصيرهما بمواجهة تركيا والولايات المتحدّة الأمريكية وحلفائها.
لذلك فإن جملة من الاستنتاجات المنطقيّة من هذه الظروف يمكن البناء عليها في تعزيز رواية السلطات التركيّة ، بحيث يمكن القول بأن هناك شراكة فعليّة بين النظام السوري بشقّه الرافض لأي مفاوضات مع تركيا وهو جناح بشار و شقيقه ماهر و اتباعهما ، الذين يديرون عمليات التنظيمات المذكورة عبر قيادتها الحاليّة، ففي هذه العمليّة مصلحة لكليهما تتجلى في تعطيل المفاوضات الأمنيّة، وفي نفس الوقت فإن تحميل مسؤولية هذه الجريمة للتنظيمين المذكورين سيجعله في حِل من قبول أي ضغوط روسية لضمها إلى صفوفه أو إبعادها عن الحدود التركيّة أو حتى قبول تعديل اتفاقيّة أضنا بما يمكّنها من شنّ عمليّة عسكريّة ضدهما ، و تعويله في ذلك على الرد التركي على التنظيمين الذي قد يأخذ شكل عمليّة عسكريّة واسعة و دفع تركيا لمواجهة الولايات المتحدّة الأمريكيّة وحلفائها هناك، وربّما رفض وزير الداخليّة التركي قبول التعازي من السفارة الأمريكيّة يأتي في سياق الضغط عليها لرفع الغطاء عن تلك المنظمات.
وأمّا عن الجدل الدائر حول جنسيّة المُتّهمة التي أُلقي القبض عليها، إنّ العِبرة في تحديد جنسيّة الفرد هي للوثائق الشخصيّة التي يحملها وليست العبرة للّون أو الشكل، فقد تكون سورية الأصل، أو تكون سورية بالتجنيس مُنحت الجنسيّة السوريّة من بين الآلاف من المرتزقة الأغراب الذين جنّدهم نظام أسد والحرس الثوري الإيراني والنظام الروسي، والتحقيقات هي الكفيلة في إثبات صحة وثائق الجنسية.
الإرهاب جريمة عابرة للأديان والأعراق والطوائف، وإن استهداف المدنيين الأبرياء في الميادين أو في المخيّمات أو استهداف المدارس والمستشفيات ودور العبادة هو قِمة الإجرام والوحشيّة التي تستوجب الإدانة والاستنكار، والتعاون الدوليّ على تجفيف منابع الإرهاب، وإننا نُعبّر عن تضامننا الكامل مع أهالي ضحايا هذه الجريمة النكراء ومع الحكومة التركية والشعب الشقيق.
النتيجة ومن خلال ما ذكرناه يمكن القول أن المستفيد من هذه الجريمة هو ” النظام السوري وأدواته المذكورة “، وأصبح أمر إقامة منطقة آمنة في المناطق المحررة ضرورة قصوى لضمان الأمن القومي التركي وأمن تلك المناطق، وحمايتها من غدر النظام وهذه المنظمات الإرهابية ولا يمكن للأمن و السِلم الدوليّين الاستقرار في ظل النظام السوري المافيوي الذي لا يتورّع عن ارتكاب الفظائع في أي مكان ونشر الفوضى والدمار وتدمير الإنسان والبنيان.