
عادت التصريحات التركيّة حول ’’امكانية’’ إعادة العلاقات بين تركيا والنظام السوري إلى الواجهة، التي تزامنت مع انطلاق عمليّة ’’المخلب -السيف’’ التي بدأتها القوات الجويّة التركيّة ضد مواقع وتحصينات ميليشيات “قسد” و التي أدّت إلى تدمير عدد كبير من الأهداف ومقتل العشرات من أفراد هذه الميليشيات وعدداً من أفراد ميليشيا النظام السوري المتغلغلة بينها والتي تعمل بالتنسيق معها، العمليّة التي لاقت رفضاً نسبيّاً من كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وتحفّظاً إيرانيّاً، ورفضا قاطعا من قبل النظام واعتبارها من أعمال العدوان على سيادته.
ويُستدَلّ من عبارة ’’امكانيّة” إعادة العلاقات أن العودة أمرٌ احتماليٌ، مرهون بتوفّر عدّة عوامل وتحقيق جُملة من الشروط التي وضعتها تركيا على طاولة النظام، ومنها إثبات جديّته في الانخراط في العمليّة السياسيّة التي ترعاها الأمم المتحدة، ووقف أعمال العدوان على الشعب السوري، وتوفير البيئة الآمنة المُستقرّة لعودة اللاجئين في المرحلة الانتقاليّة، وفكّ ارتباطه مع تنظيمات “حزب العمال الكردسـتاني وحزب الإتحاد الديموقراطي ووحدات حماية الشعب’’ المُصنّفة على قوائم الإرهاب في تركيا، والتي تُعتبر القيادة الفعليّة لمشروع ’’قسد’’ الإنفصالي وطردها من الأراضي السوريّة وتسليم قياداتها للسلطات التركيّة.
لو وضعنا أمامنا خارطة للمنطقة ودقّقنا في مواقع تمركز الأطراف وحركات كل منها لوجدنا أن من يدير اللعبة هم كل من “روسيا وإيران والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها” بمواجهة تركيا في مناطق سيطرة ميليشيات ’’قسد’’ عن طريق تحريك البيدقين ’’أسد وقسد’’ حيث تدفع روسيا وإيران بـ”قسد” إلى حضن النظام للتهرّب من الضربة القاضيّة التركيّة التي تنوي تركيا القيام بها، وهو ما رفضته “قسد” رفضاً قاطعاً خشية خسارتها الدعم الأمريكي الأوروبي، وفي ذات الوقت تدفع الولايات المتحدة بـ’’النظام السوريّ’’ بطريقة غير مباشرة للدخول في مواجهة مع تركيا عبر السماح لعصاباته بالتغلغل في صفوف “قسد”، وهو ما شاهدناه من خلال تعرّض عناصرها لعمليّات القصف الجويّ التركي وسقوط عدد من القتلى منها أثناء استهداف مواقع “قسد”.
تُعتبر العمليّة الإرهابية التي وقعت في ميدان تقسيم، وقصف القرى الحدوديّة التركيّة قاصمة الظهر لتلك التنظيمات، ويُعتبران حركتان حمقاوتان أقدمت عليها تلك التنظيمات ومن يقف ورائهما ومن يحاول استغلالها لتحقيق مصالحه الخاصّة على حساب الدم والأمن القومي التركي من جهة المُتجسِّد بموقف الولايات المتحدة وحلفائها في استماتتها لحماية تلك التنظيمات والحيلولة دون القيام بالعمليّة العسكرّية التركيّة البريّة، ومن جهة أخرى على حساب الثورة السوريّة والدم السوري وهو ما يجسِّده الموقف الروسي والإيراني من خلال عمليات الإبتزاز السياسي الذي تُمارسانه ضد تركيا لدفعها باتجاه إجراء مفاوضات تركيّة مع النظام مقابل رفع اليد عن “قسد”.
تُعتبر طريقة ’’الرفيق الأحمق’’ من أسرع طرق لعبة الشطرنج في القضاء على الخصم والفوز الساحق عليه، وتقوم هذه الطريق على درجة حُسن استغلال اللاعب الأخطاء التي يرتكبها خصمه، و وهو ما ينطبق على حماقات تلك التنظيمات واللاعبين المذكورين التي كشفت حقيقة مواقف ’’روسيا و إيران و الولايات المُتحدة’’ المُخادعة والمُتآمِرة ضد تركيا الأمر الذي دفعها للردّ عليها بحزم.
لذلك جاء إعلان القيادة التركية عن عمليّتها العسكرية والتي أطلقت عليه اسم “المخلب ـ السيف” ليحسُمَ الأمر، ومن خلال استقراء دلالات هذه التعابير لوجدنا أنّ المِخلب يدلّ على ” الطيور الجارحة ” للدلالة على استخدام سلاح الجو، وأن السيف يرمز إلى الفرسان على الأرض للدلالة على المعركة البريّة، وأن العملية ستكون واسعة وحاسمة ضد “قسد” وكل من يقف ورائها من اللاعبين الأخرين الذين يُحرِّكونها ويُقدّموا لها كل أنواع الدعم والحماية في هذه المنطقة وهم “روسيا وإيران والنظام السوريّ والولايات المتحدة”، وإسقاط حجج أيّاً منهم لمنعها من ذلك من خلال تبرير شرعيّة هذه العمليّة انطلاقاً من اتفاقيّة أضنة لعام 1998، التي توفِّر الغطاء القانوني بمواجهة النظام السوري للتدخّل العسكري البريّ، وقرارات مجلس الأمن الدوليّ الخاصة بمكافحة الإرهاب ’’1373’’ لعام 2001 و’’1624’’ لعام 2005 و ’’2170 و2178’’ لعام 2014 و’’2254 و2249’’ لعام 2015، والمادة “51” من ميثاق الأمم المتحدة التي تمنحها حقّ الدفاع عن النفس، وهو فحوى رسالة تركيا إلى مجلس الأمن الدولي المؤرخة في /09/ تشرين الثاني 2019 والتأكيد عليها مؤخّراً.
وفي هذا السياق يمكن فهم تصريحات الرئيس رجب طيّب أردوغان حول تطبيع العلاقات العربيّة التركيّة وإمكانيّة عودتها مع النظام على أنّها:
- محاولة لتخفيف حدّة عداء الدول العربيّة اتجاه تركيا وخصوصاً تلك التي تساند نظام الأسد “مصر والإمارات والجزائر”.
- وأنّ الانفتاح على السعوديّة لإعادة تفعيل موقفِها الداعم للشعب السوري ودعم جهود المصالحة الخليجيّة لخلق تكتّل عربي وازن يدعم الموقف التركي لِلعب دور عربي حقيقي في مواجهة مشاريع روسيا وإيران والولايات المتحدة الأمريكية التي ثبُتَ أنّها لا تصبّ لا في مصلحة العرب ولا الشعب السوري ولا حتى تركيا.
- وتطمين الجامعة العربيّة من خلال تأكيده على عدم وجود مطامع تركية في الأراضي السوريّة وأنّ كل ما يهمّ تركيا هو حماية المناطق المحررة باعتبارها أصبحت جزءًا لا يتجزّأ من أمنها القومي، واستئصال مشروع “قسد” الانفصالي.
- ودفع الدول العربيّة للضغط على النظام للقبول بالانخراط الجدّي في ’’العمليّة السياسيّة’’ وتولّي مسؤوليّته بالحفاظ على وحدة أراضي سوريا وفك ارتباطه مع تلك التنظيمات والقضاء عليها ومنع أي تهديد للأمن القومي التركي قد يأتي من الأراضي السوريّة التي تخضع لسيطرته “كمقدّمات لبناء الثقة” يمكن البناء عليها في تطبيع العلاقات بينهما.
وهذا ما أثار رُعب النظام لأنه سيثبت للعالم عجزه عن القيام بواجباته بالدفاع عن وحدة البلاد، وتآمره على العرب و الشعب السوري وتركيا، وشراكته مع هذه التنظيمات التي تُعتبر مصدر تهديد لدول الجوار، مما سيجعله في مواجهة سياسيّة مباشرة مع الدول العربيّة وبالتالي القضاء على ما تبقّى له من آمال لإعادته إلى الجامعة العربيّة سيما وأن العرب يشترطون عليه فك ارتباطه مع إيران مقابل ذلك، كما سيزجّه في مواجهة عسكريّة مباشرة مع الولايات المتحدة وحلفائها في حال استهدف ميليشيات “قسد”، و قد يتسبّب بتأزيم علاقاته مع كل من روسيا وايران.
وهذا ما عبّرت عنّه بعض التصريحات الرسميّة لمسؤولي النظام والمنشورات في الصحف المُقرّبة من النظام التي تعاطت مع هذه التصريحات بالتشكيك والتسفيه والعِدائيّة.
أمّا المخاوف التي تُثار حول مصير اللاجئين في تركيا أو المهجّرين قسريّاً في الداخل السوري فإن الموقف التركي الرسمي منها واضح وثابت من خلال تعهّدها الذي تضمّنته رسالتها المذكورة أعلاه إلى مجلس الأمن والتي جاء فيها: ’’سوف تنفِّذ تركيا هذه العملية لدعم الجهود المبذولة لتيسير العودة الآمنة والطوعية للنازحين إلى ديارهم الأصلية أو إلى أماكن أخرى يختارونها في سوريا وفقاً للقانون الدولي، وبالتنسـيق مع وكالات الأمم المتحدة ذات الصلة. ولا يزال التزام تركيا القوي لإيجاد حلّ سياسيّ للنزاع في سوريا من خلال انتقال سياسيّ حقيقيّ، حسب ما هو موضّح في بيان جنيف وقرار مجلس الأمن الدولي رقم ’’2254 لعام 2015”.
وتبقى كل السيناريوهات مفتوحة كون المواقف الدوليّة تتبدّل كل يومٍ وفقاً للظروف الدوليّة السائدة و التي تشهد نزاعات وصراعات و توتّرات لا مثيل لها من قبل، واصطفافات جديدة تُنذِرُ بانهيار تحالفات قائمة وظهور أخرى تتغيّر فيها مواقع الأصدقاء والأعداء، ومنطقتنا العربيّة ليست بمنأى عنها، ويبقى على الثوار السوريين قراءة المشهد الدولي والإقليمي بعناية لتحديد خياراتهم الصحيحة وبناء مواقفهم بما يحقّق للثورة استمرارها و نجاحها، وبما يساهم بإقناع العالم بضرورة إسقاط هذا النظام الذي أصبح عالة على المجتمع الدولي وكابوساً جاثماً على صدر الشعب السوري.