ظهرت كلمة الديمقراطية عند اليونانيين القدامى في مدينة أثينا، وهي مشتقة من كلمتين، ديموس Demos (الشعب) وكراتوس kratos (السلطة) أي Demoskratos أي سلطة الشعب أو “حكم الشعب”.
والديمقراطية كما يقول أرسطو ليست أمثل الأنظمة السياسية ولكنها النموذج المختار للمساواة بين الناس، بين الفقراء والأغنياء، ولا تنسب السيادة لأي طبقة من طبقات الشعب لأنها جميعها متساوية، فيقول أرسطو: “المساواة تضمن بأن لا يحكم المعسرون أكثر من الموسرين، وأن لا يتولى أحد الفريقين السلطة العليا، بل أن يتماثلا كلاهما فيها”.
وهي شكل من أشكال الحكم يشارك فيها جميع المواطنين المؤهلين للتصويت في سن معينة على قدم المساواة في اقتراح، وتطوير، واستحداث القوانين، إما مباشرة أو من خلال ممثلين عنهم منتخبين.
وتعني الديمقراطية مرة أخرى، “حكم الشعب بالشعب وللشعب”، أي أن الأمة هي وليّة أمر نفسها، وأما رئيسها وباقي المسؤولين فهم موظفون عند الأمة لا يحق لهم أن يستبدوا بالقرارات الهامة، بل يرجعوا إلى الأمة يستأمرونها، أي يطلبون أمرها، هل توافق على ما يقترحون فعله، أم لا توافق، كما يأخذون في اعتبارهم رأي الأمة المسمى في هذا العصر “الرأي العام”، فيعملون على الاستجابة له، أو على تبصير الأمة بخطئه إن كان خاطئاً.
ورجوع المسؤولين إلى الأمة كما أشرنا يكون إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر.
أما المباشر، فيكون عن طريق الاستفتاء الشعبي، حيث لكل فرد راشد صوت يدلي به مع المشروع المقدم أو ضده، وهذه الطريقة مكلفة في الجهد والمال، لذلك يتم اللجوء إليها في القضايا المصيرية وما في حكمها.
أما الطريقة الثانية (بشكل غير مباشر): الرجوع إلى الأمة واستئمارها، فعن طريق طرح المشروع على مجلس منتخب من ممثلي الأمة، يجتمعون تحت قبة واحدة، بجلسة أو بجلسات عديدة، يتحاورون، ويدلي كل منهم برأيه، بصفته وكيلاً عن الأمة التي اختارته ليمثلها، وبعد النقاش والجدال، تُطرح القضية للتصويت، فإن نالت موافقة أغلبية أعضاء البرلمان، تم إمضاؤها، وأصبحت قانوناً نافذاً، لم ينفرد باتخاذه لا الرئيس ولا غيره، بل اتخذته الأمة بنفسها ممثلة بنوّابها، وبهذا تكون الأمة حاكمة نفسها، وتتحقق الديمقراطية، وينتفي الاستبداد، فتكون القرارات أقرب للصواب ولتحقيق مصلحة الأمة أكثر بكثير، مما لو اتخذها رئيس مستبد برأيه، قد يدفعه هواه لما ليس في صالح الأمة.
إلا أن أفلاطون اعتبر أن الديمقراطية أسوأ الأنظمة وهي “حكم الرعاع” لأنها قتلت من صنعها وارتضاها حكما، ذلك لأنه بواسطتها أعدم أستاذه أرسطو، أعدمه ديمقراطيو أثينا، وهو أعظم رجل في زمانه، بتهمة إفساد الشباب، واعتبر أفلاطون أن الديمقراطية هي المسؤولة عن موته، وكتب في كتابه “الجمهورية”: أن الديمقراطية أسوأ الأنظمة بعد النظام الاستبدادي.
ويعتبر أفلاطون أن عيب الديمقراطية الجوهري، أنها تمنح الرعاع (التافهين) قولاً في الشأن العام، وشرح بدقة كيف تنحدر البلاد عندما يقرر مصيرها الرعاع، إلى الفوضى والتأخر، وكيف يطالب الناس لاحقاً بحاكم قوي لإعادة الأمن والاستقرار للمجتمع، وهذا يؤيد حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيأتي على الناس سنوات خدّعات، يُصَدق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل وما الرويبضة يا رسول الله ؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة).
هذا وقد حذر أفلاطون قبل آلاف السنين من أن الديمقراطية تطلق غرائز العوام، وتجلب الفوضى والاستبداد.
وأقول: لكي لا نكرر المأساة فنعدم سقراطا مرتين، ولا نكرر مجازر هتلر، علينا مايلي:
اولا، أن نضع ضوابط سامية (مبادئ فوق دستورية) للديمقراطية بحيث تلتزم القيم والمثل والأخلاق ومقاصد الشريعة الإسلامية، وينص على ذلك بالدستور.
ثانيا، نضع للناخب ضوابط وللمُنتخب ضوابط أيضا، بحيث لا يحق له الترشح ولا الانتخاب من يخالف تلك الضوابط منها مثلا: خلو السجل العدلي أو الجنائي من الجرائم الجنائية والجنحية، خلو السجل العدلي من مخالفة الأخلاق العامة والآداب، لا يحق لمن لا يحمل شهادة جامعية (ليسانس) أن يترشح للانتخابات، أن يكون الناخب والمنتخب مشهود له بحسن السلوك، وذلك حتى لا يصل الرعاع إلى البرلمان وحتى لا تستخدم الديمقراطية في قتل الشعوب وإذلال شعوب أخرى.
وأذكر من مآسي وصول الرعاع إلى البرلمان أن حاكم روما كان يصفق مع الديمقراطيين (الأغلبية) على قتل العبيد والفقراء ونهش لحومهم على مسرح روما.
ثالثا، لابد من تأصيل قانوني لتوصيف العلاقة بين الشعب الذي سيدلي بصوته وبين الحاكم والبرلمانيين الذين انتخبهم الشعب (الناخب): الشعب هو (الموكل) الذي يعجز عن الجمع بين إدارة أموره الخاصة وأموره العامة المتعلقة بالدولة، فيكتفي في إدارة أموره الخاصة ويضطر لتفويض أموره العامة لوكيل عنه يسمى وكيلا (الحاكم أو البرلماني) ضمن شروط الوكالة شرعا وقانونا، بحيث يكون كلا من الموكل والوكيل أهلا للوكالة، حيث يحق للموكل عزل الوكيل إذا أخل الوكيل بشروط الوكالة ولم يف بها وهي:
المحافظة على مصلحة الموكل الممثلة بما يلي: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ المال، حفظ العرض، حفظ العقل.
والسؤال يطرح نفسه هل تعتبر الديمقراطية علمانية فقط أم يمكن أن تتماشى مع الشريعة الإسلامية؟، الجواب: نشأت الديمقراطية نشأة علمانية في جغرافية لا تمت للإسلام بشيئ، لكنها يمكن أن تكون إسلامية بحيث تقرر فيها أغلبية الأمة تطبيق الشريعة على نفسها، أي تحكم نفسها بالشريعة التي أنزلها الله، وهذا يعني أن الديمقراطية ليست ضد الشرع من حيث المبدأ، إنما هي وسيلة في ممارسة الحكم ضد الاستبداد والتفرد بالرأي وفرضه على الأمة، وما ينتج عن هذا الاستبداد من ظلم للكثيرين من أبناء الأمة، ومن استئثار فئة قليلة بخيرات الأمة وحرمان باقي الأمة منها.
والسؤال الذي يطرح نفسه ايضا، هل تعتبر الديمقراطية بحكم الشورى؟ ويمكن الاستغناء عن الشورى بالديمقراطية؟، الجواب: الشورى من مبادىء الإسلام الحنيف الأساسية، وهي تختلف عن الديمقراطية، بل يمكن القول أن الديمقراطية مكملة للشورى وليست بديلاً عنها، الشورى إصلاحا، هي استشارة الخليفة للآخرين، وجمع أفكارهم وآرائهم، والاستعانة بها على اتخاذ القرار الصائب في القضية التي يبحث فيها، فيأخذ آراء الخبراء والحكماء والوجهاء، لكنه، يبقى هو من يقرر، وهو من يختار من الآراء التي سمعها ما يريده، أي أن الشورى في الأصل ليست مُلزمة، أما إن جعلناها مُلزمة للرئيس، بحيث عليه تقرير ما أشارت به الأكثرية، ولا يحق له أن يخالف هذه الأكثرية، فإن الشورى المُلْزِمة تصبح هي الديمقراطية ذاتها المنضبطة بمقاصد الشريعة الإسلامية.
وعلى مدى قرون طويلة، كان خليفة المسلمين هو ولي أمرهم، كما يكون الأب ولي أمر أولاده، أي هو صاحب الأمر والنهي، فإن استشار غيره كان مهتدياً بهدي الإسلام حتى لو لم يلتزم برأي الأكثرية،
بل مال إلى رأي قال به واحد أو فئة قليلة، أو إلى أمر لم يُشِر به عليه أحد، فيقرره وعلى الأمة طاعته.
ولو كانت الشورى مُلزمة للحاكم لا يحق له أن يخالفها، فإنه حينها لا يكون ولي الأمر، و ليس صاحب الأمر، بل يشارك فيه أهل الحل والعقد، أو زعماء الناس وحكمائهم، أو جميع أفراد الأمة.
والديمقراطية بشأن ولي الأمر تعتبر مايلي: الأمة وليّة أمر نفسها، أي هي أمة راشدة، لم تعد قاصرة تحتاج لولي أمر يقرر لها أمرها، فقد بلغت سن الرشد، وتمارس حقها في اتخاذ القرارات الهامة بنفسها، وليس للرئيس إلا المشاركة في اتخاذ القرار باقتراحاته، ثم التنفيذ، وهذا سبب تسمية الرئيس والوزراء ومن يعمل معهم “السلطة التنفيذية”، السلطة صاحبة الأمر والنهي إما عن طريق الاستفتاء الشعبي، أو عن طريق من يمثلها في البرلمان، وللحديث عن البرلمان بهذا الخصوص نقول:
بما أنه لا يُسَنّ قانون إلا من قبل البرلمان، لذلك يسمى نواب الأمة المنتخبون “السلطة التشريعية”.
ومعنى تشريعية هنا لا بمعنى أنها لا تأخذ بشرع الله تعالى أو تستغني عنه، بل بمعنى أنها تسن القوانين، التي من خلالها، يتم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية الحنيفية.
أما المشرعون: فهم العلماء المتخصصون في الفقه وباقي العلوم المنتخبون وفق شروط معينة، يجتهدون بسَنّ القوانين فيما عفا الله عنه سبحانه وسكت، رحمة بنا لا نسياناً، وبقيت متروكة لحكمتنا نحن المستخلفين في الأرض من قبل خالق الأرض والسماء، بحيث لا تخالف تلك القوانين مقاصد الشريعة
والديمقراطية بهذا الصدد وهذا المفهوم لا تقتصر على مجرد حق الأمة في اختيار رئيسها كما اختار المسلمون الخلفاء الراشدين الذين تولوا أمر الأمة برضاها، وكانوا حكاماً شرعيين حقاً، بل تمتد الديمقراطية فتشمل وجوب رجوع الرئيس المنتخب ومن معه من حكومة إلى الأمة في كل قضية هامة يأخذ أمرها، لا مجرد رأيها.
وقد صنع عبد الرحمن بن عوف في الديمقراطية سابقة لم يسبقه اليها احد من قبل ولن تصل إليها ديمقراطية الغرب حتى الآن، ذلك أنه استشار ليس الرجال فحسب بل النساء والشباب وحتى الصغار بشأن تولية الخليفة، لأن الأمة من حقها ان تختار حاكمها ونظام حكمها ومن حقها ان تعزله إذا جانب الصواب، وقد أكد هذا الخليفة الراشدي الأول بقوله: “بكر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: “أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”.
وباختصار نقول: الديمقراطية بضوابط مقاصد الشريعة هي: “الشورى اللازمة المُلزمة”، وهي الشورى الواجبة على الحاكم، والواجب عليه الأخذ بما تقرره لا مجرد الاستئناس بها، وهي شورى مفروضة على الحكومة وليست مجرد تواضع منها من الحكومة، وهي مُلزمة لأن الأمة لا تعطي رأيها ومقترحاتها، بل تُصدر أوامرها وقراراتها.
لذا فعلينا أن لا نتحسس من الديمقراطية إذا انضبطت بهذا الشكل ظانّين أنها تناقض الإسلام ودخيلة عليه.
وأختم بالقول: هذا ولما لم تكن هناك كلمة عربية أصيلة تترجم كلمة الديمقراطية الأجنبية، قام الناس بتعريبها كما هي، وبقيت متنافرة لغوياً مع مصطلحات الشرع، وإن كانت في حقيقتها إذا انضبطت ليست إلا من مبادئ الشرع، وتماشي أو تقارب مصطلح “الشورى اللازمة المُلزمة”.