
قالت مجلة فورين افيرز الأميركية إن “الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أوصل تركيا إلى هويتها وهو يعمل لمرحلة ما بعد الغرب”، مشيرة إلى أن “الاهتمام الأمريكي الحالي بتركيا وأردوغان هو بمثابة تطمينات قيمة للمستثمرين الراغبين بالاستثمار في تركيا”.
وقالت المجلة في تقرير لها إنه “لا أحد يقوم بالحملات الانتخابية مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فقبل أشهر من الانتخابات التركية الأخيرة في أيار/مايو الماضي، كشف أردوغان النقاب عن شعار حملته الانتخابية والذي كان (القرن التركي) مع أغنية تقول كلماتها: كنت طائرا بجناح مكسور وبقيت صامتا 100 عام لكن يكفي، يكفي.. لا تكن هادئا، عش حرا.. دائما حرا.. دع قرن تركيا يبدأ اليوم وليس غدا”.
وتابع التقرير أنه “إلى جانب هذا الشعار وهذه الأغنية، تحدث أردوغان يومها بخطاب معبّر شدد فيه أنه يريد أن يجعل تركيا من بين الدول العشرة الأولى في العالم بالسياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والدبلوماسية العامة”، مضيفا أن “أردوغان يريد أن يعجل من تركيا قوة صاعدة تنتصر في معاركها مع الإمبرياليين”.
وأضاف أنه “بوجود أردوغان على رأس القيادة، وصلت تركيا إلى هويتها التي كانت تبحث عنها لعقود، إنها قوة تعيش مرحلة ما بعد الغرب، ولم تعد تسعى للحصول على موافقته، أو تطمح إلى المثل الليبرالية الغربية، ولم تعد تعتمد على هذا الغرب”.
وأشار التقرير إلى أنه “هناك تحول في السياسة الخارجية التركية، ففي العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، حاولت تركيا حماية نفسها من التهديد الدائم للتوسع السوفيتي من خلال ترسيخ نفسها في المؤسسات الأوروبية الأطلسية ومحاولة اللحاق بالديمقراطيات الغربية المتقدمة والمزدهرة، ولكن في المقابل، نظرت الولايات المتحدة إلى تركيا ـ من منظور الحرب الباردة ـ كدولة حدودية مفيدة في الحرب ضد الشيوعية والنفوذ السوفيتي”.
وتابع أنه “بالرغم من أن تركيا لم تكن غربية أو ديمقراطية بالكامل، ولكن حقيقة أن النخب العلمانية في تركيا سعت إلى تعزيز علاقة البلاد بالغرب خلال فترة الحرب الباردة.. كانت فكرة جيدة بما يكفي لصانعي السياسة في الولايات المتحدة، أما اليوم، فالصورة مختلفة تماما”.
وأوضح أنه “منذ أن تولى أردوغان السلطة عام 2002، وخاصة منذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، ساءت علاقة الولايات المتحدة مع تركيا بشكل مطرد، وهي الآن أقل متانة من العلاقات التي تقيمها الولايات المتحدة مع العديد من القوى غير الأعضاء في الـ(ناتو)”.
ولفت التقرير إلى أنه “غالبا ما يصف السياسيون الأتراك، بمن فيهم أردوغان، الولايات المتحدة أنها خصم وليست شريكا، فعندما فرضت واشنطن عقوبات على تركيا عام 2020 بسبب شرائها أنظمة نظام الدفاع الجوي S-400 من روسيا، وصف أردوغان القرار الأمريكي أنه هجوم صارخ على السيادة التركية يهدف إلى منع الخطوات التي اتخذتها بلادنا في مجال الصناعات الدفاعية”.
وأشار التقرير إلى أنه “في الولايات المتحدة يشكك بعض صانعي السياسة بالتزام تركيا بحلف شمال الأطلسي ويخشون أن تقترب أنقرة من موسكو، لكن هذا الغضب المتبادل بدأ مؤخرا بالتراجع إلى شيء يشبه القبول.. إن تركيا تعمل في عهد أردوغان على أساس أن الغرب في حالة انحدار وأن عالما متعدد الأقطاب آخذ بالظهور، وهو ما يوفر ظاهريا انفتاحا لصعود تركيا إلى مكانة القوة العظمى، لكن تركيا لا تريد تغيير المعسكرات بالابتعاد عن حلف شمال الأطلسي والتوجه نحو منظمة شنغهاي للتعاون، وهي منظمة دفاع وأمن أوراسية شكلتها الصين وروسيا عام 2001 في محاولة لمنافسة الـ(ناتو)، لكن تركيا ترغب بالحفاظ على قدم لها في كل معسكر مع توسيع نفوذها في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وقوتها الاقتصادية على نطاق واسع”.
ورأى أنه “على الرغم من أن أردوغان يسعى إلى انفصال واضح عن الغرب عندما يتعلق الأمر بالأيديولوجيا والثقافة والهوية، إلا أنه يحاول في الوقت نفسه تنفيذ عملية توازن مدروسة بعناية بين القوى العظمى، على أمل إيجاد المزيد من الفرص التي يمكن لتركيا أن تمارس فيها نفوذها”.
وشدد أن “الولايات المتحدة لا تستطيع عكس مسار تدفق التاريخ وإعادة دمج تركيا في الغرب أو الاتحاد الأوروبي، فمحاولة تركيا للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي ليست في حالة احتضار فحسب، بل ماتت بالفعل.. لقد ولت الأيام التي كان يمكن لرئيس أمريكي أن يقف فيها إلى جانب القادة الأتراك ويتحدث عن حقوق الإنسان في تركيا، ولكن لا يزال بإمكان واشنطن بناء علاقة فعالة مع دولة ما بعد الغرب التي أصبحت عليها تركيا”.
ورأى أن “براغماتية أردوغان وطموحاته الإقليمية ومعاملاته تجعل العلاقة المثمرة ممكنة بين تركيا والولايات المتحدة، بإدارة بايدين الحالية أيضا حافظت على روابط مع تركيا، ولكن فقط في القضايا ذات الأهمية الفورية، مثل انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان عام 2021 والاتفاق بين روسيا وأوكرانيا الذي سمح للأخيرة بتصدير الحبوب عبر البحر الأسود، فقد لعب أردوغان دورا رئيسيا في الصفقة من خلال إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالسماح لشحنات الحبوب الأوكرانية بالخروج من ميناء أوديسا لمدة عام على الأقل.. لقد كان اردوغان مهما بصفته الهامس في أذن بوتين، لكن التعاون الأمريكي التركي بشأن التحديات الجيوسياسية الأوسع كان منخفضا أو غير موجود، ولا تزال إدارة بايدن قلقة وتلتزم الصمت في نفس الوقت، بشأن نهج تركيا الإقليمي الحازم، لا سيما تهديداتها بشن توغل في سوريا لمهاجمة الميليشيات المدعومة من الولايات المتحدة، والتي تعتبرها أنقرة امتدادا لحزب العمال الكردستاني (PKK الإرهابي) الذي تصنفه تركيا والولايات المتحدة على أنه منظمة إرهابية”.
وأشار التقرير إلى أنه “مما يثير القلق أيضًا تصعيد تركيا لحربها الكلامية مع اليونان بشأن الحدود البحرية ودعم تركيا القوي للحملة العسكرية الأذرية ضد أرمينيا، الأمر الذي يقلق واشنطن لأنها فتحت إمكانية نشوب صراع شامل آخر عمليا بجوار الحرب في أوكرانيا، لكن واشنطن ضبطت نفسها بردها على هذه التحركات من أجل تجنب إثارة المواجهة”.
وأضاف أنه “على الرغم من العداء للولايات المتحدة على نطاق واسع بين الشعب التركي، فقد تجنب أردوغان إلى حد كبير المواجهة المباشرة مع إدارة بايدن.. لكن السلام البارد بين الولايات المتحدة وتركيا يبدو وكأنه طلاق ودي أكثر منه تعاون متبادل المنفعة.. وفي الوقت الذي كان التباعد يزداد بين الولايات المتحدة وتركيا، ازدهرت العلاقات الروسية التركية بشكل عام خلال العقد الماضي، ونجت حتى الآن من الامتحان الذي فرضه الغزو الروسي لأوكرانيا، فقد امتنع أردوغان عن أي انتقاد مباشر للفظائع الروسية، وكثيراً ما دعم رواية موسكو أن الغرب تسبب بغزو أوكرانيا، حيث قال أردوغان في أيلول/سبتمبر 2022 (يمكنني القول بوضوح إنني لا أجد موقف الغرب تجاه روسيا صحيحا) كما رفضت تركيا الامتثال للعقوبات المفروضة على روسيا وحافظت على علاقات اقتصادية وسياسية مع الكرملين، مدعومة بعلاقة أردوغان الشخصية الوثيقة مع بوتين”.
ورأى التقرير أنه “في الوقت نفسه، تظل تركيا وروسيا منافسين استراتيجيين، حيث تدعمان أطرافًا متعارضة في حروب بالوكالة في ليبيا وسوريا، وعلى الرغم من رفضه القبول بالرواية الغربية بشأن الحرب في أوكرانيا ومعاقبة روسيا، إلا أن أردوغان وقف بكل معنى الكلمة إلى جانب أوكرانيا في حربها ضد روسيا، وأقام علاقات وثيقة في مجال الصناعات الدفاعية مع أوكرانيا، كما دعمت تركيا أوكرانيا بالأسلحة، ودعمت محاولة أوكرانيا للحصول على عضوية الـ(ناتو)”.
وأوضح التقرير أن “تركيا تسعى إلى تجنب التبعية الاستراتيجية من خلال التنقل بين القوى العظمى، لكن وضعها دقيق، وقد تكون تركيا هي الجدار النهائي الفاصل والممزق بين مختلف البلدان الأكثر قوة، والاستبداد والديمقراطية، وأوروبا وأوراسيا، والعلمانية ذات الميول الغربية والقومية المحافظة”.
وتابع أن “حكومة أردوغان الجديدة وأسماء وزرائها تشير إلى نية أردوغان السير في هذا المسار المعقد معتمدا على استراتيجية تحوط.. حيث يمثل وزير المالية محمد شيمشك، ووزير الخارجية هاكان فيدان، ونائب الرئيس جودت يلماز، ووزير العدل يلماز تونك، ومدير الاستخبارات إبراهيم كالن، فصيلًا داخل النخبة التركية يعتقد أن بإمكان تركيا تعزيز موقعها، وتحسين اقتصادها، والالتفاف على الهيمنة القادمة من روسيا بمهارة أكثر إذا كانت لديها علاقات أفضل مع الولايات المتحدة وأوروبا، لكنهم أيضًا حلفاء مخلصون لأردوغان منذ فترة طويلة وهو يثق بهم للعمل بشكل جيد مع نظرائهم الغربيين دون التخلي عن المصالح التركية”.
وأكد التقرير أن “موقع تركيا الاستراتيجي على البحر الأسود، الذي يربط روسيا والشرق الأوسط وأوروبا ببعضهم البعض، يجعلها لاعبا مهما في الحرب في أوكرانيا، ولاعبا حيويا لجهود الغرب لاحتواء روسيا، وإذا بدأت المفاوضات بين كييف وموسكو، فقد تثبت علاقة أردوغان مع بوتين أنها رافعة مهمة للغرب”.
وتابع أن “أهمية تركيا بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها تمتد إلى ما وراء منطقة البحر الأسود، حيث يمكن أن تساعد أنقرة أيضًا بالحفاظ على الاستقرار في القوقاز إذ يمكنها دفع حلفائها الأذريين للتوصل إلى اتفاق سلام مع أرمينيا، وينطبق الشيء نفسه على العراق وسوريا، حيث يساعد الوجود التركي واشنطن بالحفاظ على قدر ضئيل من النفوذ”.
وتطرق التقرير إلى قضية نقل الطاقة، مشيرا إلى أن “الولايات المتحدة تأمل أن تتمكن تركيا من المساعدة بإنشاء بنية مستدامة لنقل الطاقة تسمح لأوروبا بأكملها بالاستفادة من الموارد الهائلة المحتملة شرقي البحر الأبيض المتوسط.. هذه الوقائع تجعل الولايات المتحدة مضطرة للسعي إلى استقرار علاقتها مع تركيا على الرغم من حقيقة أن تركيا احتضنت هوية ما بعد الغرب في الداخل وموقف ما بعد الغرب في سياستها الخارجية، وهذا يعني التحرك نحو تبني عقلية تبادل المصالح”.
وأضاف “قد تكون المساومة الناجحة في قمة الـ(ناتو) الأخيرة في فيلنيوس بشأن انضمام السويد إلى الحلف نموذجا على هذه العقلية، فمن الواضح أن أردوغان كان في مزاج يسمح له بالتبادل المصلحي، وفي مقابل دعم محاولة ستوكهولم للانضمام إلى الحلف، حيث طالبت تركيا بتنازلات ليس من السويد فحسب (بما في ذلك إنهاء حظر الأسلحة السويدي غير الرسمي على تركيا، وقانون مكافحة الإرهاب السويدي الأكثر قسوة، وتسليم العديد من طالبي اللجوء المرتبطين بحزب العمال الكردستاني) ولكن من الولايات المتحدة أيضا”.
وأشار إلى أنه “وراء الكواليس، دفعت إدارة بايدن الكونغرس الأمريكي للموافقة على بيع طائرات F-16 إلى تركيا، وهي طائرات كانت أنقرة ترغب بشرائها منذ فترة.. ولتسهيل الأمر، توصل البيت الأبيض إلى صفقة ثلاثية تضمنت بيع طائرات مقاتلة من طراز F-35 إلى اليونان، وقد جعل الاتفاق جميع الأطراف سعداء بشكل معقول في النهاية، حتى لو لم يتوافق مع معايير كيفية تعامل الحلفاء مع بعضهم البعض”.
وقال التقرير إن “الاهتمام الأمريكي الحالي بتركيا وأردوغان هو بمثابة تطمينات قيمة للمستثمرين الراغبين بالاستثمار في تركيا”.