
في الرابع والعشرين من شهر أغسطس الجاري قضى القضاء التركي برفض الدعوى التي رفعتها الأحزاب العلمانية ضد قرار تعيين أئمة في المدارس والجامعات كمرشدين معنويين للطلاب ويقول إن هذا القرار لا يتعارض مع مبادئ العلمانية.. انتهى الخبر.
من بلدية إنيبولو على البحر الأسود قبل 98 عاماً، من اليوم، أعلن مؤسس الدولة الجمهورية التركية مدنية جمهوريته وما حمله الإعلان من انسلاخ الجمهورية من ظهيرها العربي الإسلامي ومن ثم منع كل مظاهر التدين والتحول المظهري للتغريب، ارتداء السراويل والقمصان وربطات العنق والسترات والقبعات الغربية ومنع لبس العمامة، كإعلان لحقبة جديدة ستعيشها دولة الخلافة بعد أن أصبحت جمهورية.
هذا الإعلان رتب له لسنوات في كيان وعقل مؤسس الجمهورية، ولعل من كشف عن هذه النوايا رفيقه وصديق الكفاح، مظهر موفيت بك في أرضروم ليلة 7/8 يوليو 1919 حين أسر له بأن تركيا الجديدة لن يكون بها خلافة وسيمنع الحجاب وسيرتدي فيها الرجال القبعة بدلا من الطربوش أو العمامة وستكتب كلماتها باللاتينية، وسيتم “إصلاح” الدين!
وهو ما حدث تدريجيا حتى قنن ما حلم به مصطفى كمال باشا وأصبحت مؤسسات الدولة تحمي الحلم بعد أن أصبح واقعاً، يحكى فخر الدين ألتاي في كتابه (10 سنوات من الحرب وما بعدها) إن الرئيس عصمت باشا عند عودته من إزمير في 22 أكتوبر، سأل مستقبليه عن موقف المتعصبين من القبعات؟، وعندما أجابوا: إنهم خجولين ويقبلون بشكل لا إرادي، فرد عصمت باشا: (إنه من الضروري الحفاظ على هذا الضيق حتى تتغير الأجيال).
هكذا كانت العلمانية الكمالية تفرض على الشعب التركي فرضاً وهو ما ترك ندبة كبيرة في المجتمع التركي لا تزال واضحة وعميقة يضغط عليها من أراد تحريك المجتمع، ويلعب عليها طالبي العودة للماضي أو تهميش من يقودون الحاضر، فيبحثون في إمكانية إقصائهم مستندين على إرث يراد له أن تعاد صياغته وفهمه.
منذ وصول حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم وهو يأخذ على عاتقه التعليم كأولوية في مشروعه الحضاري لبناء جمهورية جديدة إذ يرى الحزب أن التعليم هو المفتاح لتطوير الاقتصاد والمجتمع في تركيا، لذا فقد نفذ عدداً من البرامج والسياسات لتحسين الوصول إلى التعليم ورفع مستوى جودته، ويرى المعارضون للحزب أنه اتخذ التعليم وسيلة لتدمير المبادئ العلمانية التي رسخها أتاتورك في جمهوريته المؤسسة قبل مئة عام، فيما يرى أردوغان أن حزبه يقدم رؤية أخرى لعلمانية المؤسس أكثر تكاملية وتعايشا بين أفراد المجتمع المختلفة ميوله وتوجهاته.
فتمكين النساء المحجبات في كل مؤسسات الدولة للوصول لخدماتها أو الالتحاق ككادر في دولاب عملها إنما هو حق أصيل لمواطن اختار هويته التي لا تخالف المبادئ العلمانية المبنية على الحرية والانفتاح، واختيار الأب لابنه نظاماً تعليمياً خاصاً فهو من صلب العلمانية التي تنادي بالحرية، وممارسة الشعائر الدينية في العلن لا يضر العلمانية من وجهة نظر العدالة والتنمية، ففي مقابلة له في برنامج “المقابلة” مع الإعلامي علي الظفيري بثت له على قناة الجزيرة في عام 2016، عرف الرئيس التركي ومؤسس حزب العدالة والتنمية العلمانية من وجهة نظر حزبه على أنها “معيشة كل المجموعات الدينية والفكرية بالطريقة التي يريدونها، والتعبير عن أفكارهم كما يؤمنون بها، وقيام الدولة بتأمين كل المعتقدات”.
وفيما يبدو أن أردوغان وحزبه حققا نجاحاً كبيراً في تغيير هذه النظرة التفسيرية الأحادية البعد، والتي أُسس لها على مدى مئة عام، وحمتها الدولة بمؤسساتها الناعمة كالإعلام والتعليم، أو الخشنة كالشرطة والجيش، بأن تقضي المحكمة في حكم تاريخي بأحقية الدولة تعيين أئمة في المدارس والجامعات كمرشدين معنويين للطلاب، ما يعني إعلان حقيقي للجمهورية الثانية التي عمل عليها العدالة والتنمية في الواحد والعشرين عاماً الماضية وانتصرت لها مؤسسات الدولة من غير إجبار ولا تخويف ولا تضيق، بل من الضروري أن تزيد مساحة الحرية لا الضيق، كما قال عصمت باشا، حتى تتغير الأجيال.