بات يُلاحظ في العقود الأخيرة تغيرات كبيرة في مفهوم الأسرة في الغرب، مما أثر على الهياكل الاجتماعية والقيم الثقافية.
ويرى مراقبون أن الأسرة من أهم المؤسسات الاجتماعية في معظم مجتمعات العالم، وتمثل الأسرة المكون الأساسي للمجتمع والوحدة الأساسية التي تؤثر في تكوين الهويات والقيم الثقافية، حسب تعبيرهم.
ووسط هذا كله، يطفو على السطح سؤال بارز مفاده “كيف دمر الغرب مفهوم الأسرة في مجتمعاته، وما هي العوامل التي أسهمت في ذلك؟”.
وحسب مراقبين، فإنه في العقود الأخيرة، شهدت مجتمعات الغرب تغيرات كبيرة في هياكل الأسرة، وانخرط الكثيرون في الزواج في سنوات لاحقة في الحياة بسبب التعليم وتحقيق الاستقلال المالي.
بالإضافة إلى ذلك، زادت نسبة الزيجات المدنية وانخفضت نسبة الزيجات الدينية، ما يعكس تحولًا في القيم الاجتماعية، إذ أصبحت العلاقات الرومانسية والشراكات الشخصية تأخذ مكانًا أكبر من القيم التقليدية المرتبطة بالزواج والأسرة، وفق مهتمين بالشأن الأسري.
بدورها، لعبت التكنولوجيا ووسائل الإعلام دورًا كبيرًا في تغيير مفهوم الأسرة في المجتمعات الغربية، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، أصبحت العلاقات على مستوى الأسرة أقل تقييدًا مكانيًا وزمانيًا، مما يجعل الأفراد أكثر انفتاحًا على عوالم متعددة وتجارب متنوعة، ومع ذلك، قد يؤدي هذا التغيير إلى تقليل الاتصال الاجتماعي الوجاهي والعمق في العلاقات الأسرية، حسب تأكيدات مراقبين.
من جهتها، تواجه مجتمعات الغرب تحديات اقتصادية واجتماعية تؤثر على مفهوم الأسرة، حيث تزايدت معدلات الطلاق والعزوبية، وهذا يشير إلى تقلبات في العلاقات الزوجية والأسرية، بالإضافة إلى ذلك، تزايدت أعباء العمل والحياة المهنية، مما قد يجعل الأفراد يعيشون حياة أكثر انفصالًا وضغوطًا، وفق اختصاصين.
وفي هذا الصدد، قال الكاتب والناشط السياسي علوان زعيتر لـ “وكالة أنباء تركيا”، “يقول الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو: (حتى الفضيلة تحتاج إلى حدود)، انتهى الاقتباس”، متابعاً “من هنا أقول إن كانت الفضيلة تحتاج إلى حدود فما بالنا بالرذيلة؟”.
وأضاف “المجتمع الغربي حوّل الإنسان إلى آلة فعلا، ولو أزلنا القشرة الخارجية عنه لكونه يبدو من الخارج مجتمع مدني ومتحضر لكن من الداخل وخاصة الأسرة التي هي أهم لبنة في بناء المجتمع، نجد الأسرة مفككة لا يوجد قيم اعتبارية للأب والأم، بل هم عبارة عن حواضن للآلات وأقصد بها الأبناء الذين سيكبرون ويأخذون نفس الدور”.
وتابع “دمر الغرب الأسرة من خلال وجود الحرية المطلقة الكاملة للفرد، وبالتالي لا يمكن غرس قيم أخلاقية وحدود لعلاقة الأبناء بالآباء والأمهات، إذ يتخلى الابن أو الابنة بمجرد بلوغهم السن القانوني، كذلك لم يضع حدود للعلاقات خاصة الجنسية، فنجد رجلاً قد يتزوج دجاجة أو امراة تتزوج حصان أو تمساح، وهذا ينافي الفطرة السليمة والطبيعة البشرية، بل وشجع الغرب على هذه الممارسات ووضع قوانين تحميها”.
وختم قائلاً “لغرب حقيقة هو عبارة عن قصر جميل مزركش من الخارج ومتعفن من الداخل”.
وفي سياق ذي صلة، لعبت عوامل عدة في التأثير على الأسرة، بحسب مراقبين ومختصين، ومنها:
التأثير الاقتصادي: من ناحية زيادة مشاركة النساء في سوق العمل، حيث تغيرت دور الجنسين في المجتمعات الغربية بشكل كبير، وأصبح لديهما فرص متساوية للعمل والتقدم المهني، وقد أدى ذلك إلى زيادة ضغوط الحياة المهنية وقلل من التفرغ للأسرة.
انتشار الفردية: حيث تزايد التركيز على الفردية والحرية الشخصية، الأمر الذي كان له تأثير كبير على مفهوم الأسرة، فبات الأفراد يميلون أحيانًا إلى وضع احتياجاتهم ورغباتهم الشخصية أمام الالتزامات الأسرية التقليدية.
تأثير وسائل التواصل الاجتماعي: إذ يمكن أن يؤدي الاعتماد الكبير على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى انعزال الأفراد عن العالم الواقعي والتفاعل الاجتماعي المباشر مع أفراد الأسرة.
انخفاض معدلات الإنجاب: وقد يسهم انخفاض معدلات الإنجاب في تقليل حجم الأسر، وبالتالي تقليل أهمية الأسرة كوحدة اجتماعية.
العولمة: فقد تأثرت مجتمعات الغرب بالعولمة، مما أدى إلى تقديم ثقافات وقيم متنوعة تؤثر في تشكيل مفهوم الأسرة وتبادل الأفكار حولها.
سياسات دعم الأسرة: يمكن أن تؤثر سياسات الحكومة في تعزيز أو ضعف مفهوم الأسرة، فبعض الدول تقدم دعمًا قويًا للأسرة من خلال تقديم برامج وخدمات تعزز استقرارها، في حين تفضل دول أخرى الاهتمام بالفرد أكثر من الأسرة.
التحولات في الأدوار الاجتماعية: إذ تغيرت أدوار الأفراد داخل الأسرة، حيث يشعر البعض بأنهم ليسوا مقيدين بالأدوار الاجتماعية التقليدية ويمكنهم تحقيق توازن أفضل بين الأعمال المنزلية والحياة المهنية.
وبيّن مراقبون أن هذه التفاصيل تعكس تعقيد الموضوع، وتُظهر كيف يمكن تفسير دمار مفهوم الأسرة في المجتمعات الغربية من خلال عوامل متعددة تجتمع معًا لتشكيل التغييرات الحالية في مفهوم الأسرة ودورها في المجتمع الغربي، حسب كلامهم.
من جانبه، قال الصحفي والباحث السياسي محمد أبو طاقية لـ “وكالة أنباء تركيا”، “بداية أعتقد أن مثل هذا الموضوع حينما نطرحه لمجتمعاتنا؛ وتتناوله منصاتنا ومجتمعاتنا الإسلامية (الشرقية، الأناضول، جنوب آسيا…) يجب أن يكون التناول مهتم في سبل حفظ بناء وقيمة الأسرة في بلادنا، وأن يقدم الوجه والدرس الأصح الواجب الاستفادة منه من أخطاء الغرب في هذا المجال لا كما يُصور لنا خلافاً للحقيقة. ولا أبالغ حين أقول إن من أكبر أهداف الغرب وأي احتلال هو مؤسسة الأسرة؛ لما لها من ركيزة وأهمية مفصلية”.
وأضاف “أما في مسألة تدمير الأسرة وتراجع مستواها ومفهومها في الغرب، بل حتى يمكن القول غيابها واختلال مفهوم تكوينها حتى أمسى تعريف الأسرة قائم على أي علاقة بين طرفين حتى لو كانت علاقة بين طرفين من ذات الجنس البشري”.
وزاد قائلا “أول استهداف جاء للأسرة في الغرب كان عبر استهداف قلب تلك المؤسسة وهي المرأة، فأولاً نظروا إليها نظرة احتقار ودونية، وعدوها سبباً للشر والهلاك، ثم بعد زمن من هذه النظرة التي كانت مرتكزة لمعتقدات وصفوها بالدينية جاء الاستهداف الأكبر في زمن الثورة الصناعية، حيث أخرجوا المرأة من البيت دون حدود ومراعاة لمكونها الراقي وخصائصها الفطرية، وطالبوا لها وزرعوا في عقلها هاجس يسمى بالمساوة مع الرجل، ثم جعلوا منها أداة وسلعة تُشغل وتُباع في أسوء الظروف دون مراعاة للاختلاف الفطري والوظيفي بين الرجل والمرأة فالمناداة بالمساواة الخاصة بهم والتي احتلوا بها عقول ومجتمعات هي ظلم للمرأة أولاً وللمجتمع والأسرة ثانياً، وعن ذلك يقول الرئيس علي عزت بيجوفيتش الذي عرف وفهم الغرب عن قرب (إن الحضارة الغربية قد أحالت المرأة إلى موضع إعجاب أو استغلال، ولكنها حرمت من شخصيتها وهو الشيء الوحيد الذي يستحق التقدير والاحترام، وهذا الموضوع مشهود بشكل مطرد وقد أصبح أكثر وضوحاً في مواكب الجمال أو في مهن نسائية معينة مثل، الموديلات، وفي هذه الحالة لم تعد المرأة شخصية ولا حتى كائناً إنسانياً، وإنما هي لا تكاد تكون أكثر من حيوان جميل)، “علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب”.
وتابع أنه “مع الثورة الصناعية ونجاح محاولات إخراج المرأة من مؤسستها الأولى، ثم جعلها مجبرة للعمل لملاحقة الرأسمالية والثقافة الاستهلاكية؛ فنافست وزاحمت المرأة الرجل في كل أنواع المهن دون أي مراعاة وضوابط لطبيعة وفطرة كل منهما، وبهذا تحولت الأسرة لأولية متأخرة؛ وتحولت الأسرة لنقطة وفكرة الاعتماد على الدخل المشترك، ثم أصبحت لا تستغني عن ذلك الدخل، وبالتالي مستعدة لكل تضحية من اجل بقاء ذلك الدخل”.
ومضى قائلا “بعد ذلك جاءت حركات ما تسمى بالتحرر والاستقلالية للمرأة، التي طالبت بحرية مطلقة واستقلالية تامة للمرأة بذريعة أنها تستطيع فعل كل شيء بنفسها دون الحاجة لرجل، وقد لاحظ عدد من العلماء والباحثين أثر هذا الحركات السلبي؛ ودورها في انهيار الأسرة، فطالبت بالحد من نشاطها، وفي حينها أشتهر كتاباً فرنسيا بعنوان (أرض النساءTerre Des Femmes) وقد أشار الكتاب إلى انتقاد لإحدى رائدات حركة تحرير المرأة في أمريكا في الستينيات بأنها ترى ضرورة التراجع عن هذه الحركة عندما أعلنت عام 1982 أنه كان هناك إفراط في تحرير المرأة وهو المسؤول عن أزمة القيم الأخلاقية التي تزلزل أمريكا”.
ولفت إلى أنه “عقب تلك الحركات خرجت أيضا حملات الحد من الإنجاب، وظاهرة الزواج التجريبي– المعايشة دون زواج، والمصادقات البديلة والاختلاط المطلق دون حدود، ومؤخراً ضرب المجتمعات الغربية وباء المثلية الجنسية الذي أصاب مفهوم الأسرة بتشوه كبير”.
وختم موضحا “أعتقد أن مفهوم الفردية، وتحوله بكل ما يحمله من معاني إلى حجر أساس ومحور المجتمع على حساب الأسرة والأسرة الممتدة من أهم عناصر تدمير الأسرة والمجتمع، بلا شك مثل هذا الموضوع يعد موضوع حساس وطويل؛ ويحتاج بحث متخصص، ومقارنات، وتحليل لتجارب عدة، لنحصن بها قيمنا الأخلاقية والمجتمعية؛ وحينها لن ننبهر بالسراب المقدم؛ بل سنعلم قيمة الجوهرة التي بين أيدينا ونهمل في حقها (الأسرة)”.
ولفت مراقبون الانتباه إلى أن دمار مفهوم الأسرة في مجتمعات الغرب ناتج عن تغيرات متعددة في القيم والهياكل الاجتماعية، مشيرين إلى أن التغيرات في هياكل الأسرة، وتأثير التكنولوجيا ووسائل الإعلام، والتحديات الاقتصادية والاجتماعية هي عوامل رئيسية أسهمت في هذا الدمار، وفق وجهة نظرهم.
وأكدوا أنه على الرغم من هذه التحولات، تظل الأسرة مؤسسة هامة في المجتمعات الغربية، ومن المهم فهم هذه التغيرات للتعامل مع التحديات المستقبلية بفعالية والحفاظ على الروابط الأسرية والاجتماعية، على حد تعبيرهم.