قبل عام ونصف تقريباً، وفي مؤتمر صحفي، عندما سئل، منسق مجلس الأمن القومي الأمريكي للاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض، جون كيربي عن ما يفعله بوتين في أوكرانيا، وهل هو مريض نفسي، رد كيربي بأنه ليس طبيبا نفسيا، قبل أن يعود ويؤكد أنه بات من الصعب عليه أن ينظر إلى المناظر البشعة التي تأتيه من الحرب، وما تفعله قوات بوتين في أوكرانيا، وأضاف أنه يعتقد أن أي إنسان له نزعة أخلاقية لن يقبل ما يحدث، ثم يتحشرج صوته مع رغبة في البكاء على مآسي أوكرانيا، مضيفا أنه لا يمكن أن يبرر ما يحدث في أوكرانيا.
كم بدا كيربي مؤثراً إلى حد أن استدر تعاطف العالم على حال أهل أوكرانيا الذين فتح العالم أجمع خزائنه وحدوده وقلبه ومساعداته الإنسانية لهم، حتى أن اللاجئين من العرب والأفارقة في بعض البلدان طردوا من مأواهم الذي حُدد لهم من قبل دول اللجوء لتسكين الأوكران المساكين الفارين من الحرب في بلادهم، حتى أنهم لقوا عند ترحيلهم الأولوية في الخروج الآمن على حساب المقيمين في بلادهم من غير جنسيتهم.
وبعد خمسمئة يوم من الحرب في أوكرانيا تقول الإحصائيات أن عدد من قتل على يد الروس 9 آلاف مواطن وعسكري بينهم 500 طفل، من أصل 8 ملايين هم تعداد سكان أوكرانيا، فحق للعالم أن يبكيهم، فالإنسان صنيعة الله التي كرم، لكن العالم لم يبكِ ولا كيربي بكى على ما يقارب الــــــ 11 ألف قتيل نصفهم من الأطفال وحوالي 30 ألف جريح في غزة التي يبلغ سكانها 2.3 مليون نسمة، لاحظ النسب، ويفشل مجلس الأمن، حتى كتابة هذه السطور، في فرض وقف إطلاق نار، أو هدنة، ولا يستطيع إدخال حتى المواد الأساسية لهذا القطاع المنهك من الحصار على مدى 17 عاماً.
في تحيز غير مسبوق على المستويين العسكري والسياسي يقف الغرب صفاً واحدا مع الاحتلال في مجازره، ففتحوا له خزائنهم ومخازنهم العسكرية من أجل إيغال القتل في المدنيين، بل واقترح كبيرهم محاصرة السلطة في غزة مالياً ليزيده ساكن الإليزيه باقتراح تشكيل تحالف دولي للمحاربة مع الاحتلال وإنهاء المقاومة، وهو ما رفضته القيادة التركية في نفس اليوم ليأتي الرفض من أكبر رأس في الجمهورية التركية في خطاب علني أمام العالم، ليثبت الثوابت، ويؤكد على القواعد، بأن ما يحدث في غزة مقاومة وليس إرهاب.
الإرهاب هي التهمة التي لا تعريف لها في القوانين الدولية، وهم في ذلك راغبون، حتى يتم توصيفها على هوى الكبار، إن شاؤوا جعله مقاومة وإن شاؤوا كان إرهابياً وهذا يتوقف على الفاعل والمفعول به، كما يتوقف على مصالح الكبار من الفعل، في حالة من الازدواجية التي لا يتخيلها عاقل، في عالم لم يبق فيه عاقل ولا حكيم.
أما المنظمة الدولية المنوط بها وقف الصراعات والنزاعات وفرض السلم والأمن الدوليين، كما يقول ميثاقها، فلا تسيطر جمعيتها العمومية على مجلس الأمن، الذي يسيطر عليه خمسة كبار، ولا أعرف هل ما زالوا كباراً، بعد أن أهانتهم أصغر دول العالم، كأمريكا في فيتنام وأفغانستان والعراق، أم فرنسا في مالي وبوركينا فاسوا والنيجر، أم إنجلترا المتفككة التي تتشكل حكومتها من المٌستعَمرون السابقون، أم روسيا التي ذاقت الأمرين في أفغانستان وفي الشيشان، لقد أصبح العالم أكبر من الخمسة، كما أصبح العالم يستثقل معايير هؤلاء الخمسة المزدوجة والمتعجرفة.
وترجمة لهذه العجرفة خرج تقرير المفوضية الأوروبية بشأن مسعى تركيا للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، والذي وصفت فيه موقف تركيا من الحرب في غزة بالتراجع الخطير في معايير الديمقراطية، تلك المعايير التي تدرس في كليات الحقوق والعلوم السياسية، لكنها لا تطبق من قبل الأساتذة عندما يصلون لمناصب مهمة في المجتمع الدولي، فتلك المعايير مع حقوق الإنسان تتشابه كثيراً في وضعها القانوني الإجرائي مع تعريف الإرهاب، والكل مرهون بهوى ومصالح الرجل الأبيض الذي يرعى العالم بفوقية، تمثل في حد ذاتها جريمة عنصرية نص هو عليها عندما أراد أن يخدع الشعوب حديثة العهد بالاستقلال الشكلي الذي منحوه لهم، ففتن منها من فتن، وبقيت تركيا على مبادئها تنادي بأن أقيموا دولة العدل واحكموا بالقسطاس المستقيم.
هذا الغرب مختل المعايير يرى أن مؤشرات العدالة في تركيا على المستوى السياسي أو القضائي أو حتى الحقوق الأساسية، لاسيما تعاطي الإدارة التركية مع قضية الهجرة، لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها في فهم هذا التقرير وتوقيته، هي موقف تركيا من الحرب في غزة ومحاولة الغرب وسم المقاومة بالإرهاب، ومن ثم التبرير لاستباحة بيضتها بالتداعي عليها والجمع لذلك كل نطيحة وناعق، لكن آفة البشر النسيان، ولعل الغرور ينسي الإنسان حقيقته، إنهم من يعملون بنصيحة مستشار النازي الإعلامي جوزيف غوبلز: (اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس) والعمل بنصيحة مستشار النازي بحد ذاته كاشف.
تحتاج المقاومة وحاضنتها الشعبية اللتان تدفعان ضريبة الدم من استقلالهما ودفاعاً عن أرضهم حاضنة سياسية دولية تقوم بدور المقاومة في المحافل الدولية ولا تمرر عدواناً سياسيا على العدوان العسكري وهو ما تفعله تركيا من أول لحظة لطوفان الأقصى وتدفع في ذلك الثمن، دفعته مرة بعلاقتها المصلحية مع الكيان من أجل غاز شرق المتوسط، والآن تدفعه من حلمها للانضمام للاتحاد الأوروبي، لكن فوق كل القيم والمبادئ التي تدافع عنها تركيا العدالة والتنمية، فإن المآلات الاستراتيجية فيما لو مررت هذه السخف الغربي والتدليل للكيان المحتل فإن الإقليم كله سيدفع الثمن.
في مقطع مصور شاهدته بالصدفة للرئيس الشهيد ياسر عرفات.. علق على الخريطة التي تضعها حكومة المحتل على عملتها من الظهر خريطة تبلع الإقليم وتحتل الأراضي العربية، وتقسم الدول وتصنع دولا عازلة من أجل تقطيع أوصال السكان الأصليين للأرض بامتدادهم العرقي والديني وإرثهم الثقافي، ويا ليت قومي يعلمون أن تركيا الآن تُحارب سياسياً وتدفع الثمن من أجل التمهيد لهذا المخطط، وكما يقول إخواننا في تونس.. “الله غالب”.