
بكلمات مؤثرة.. كاتب قطري يرثي الشهيد إسماعيل هنية ويؤكد على موقف قطر تجاه فلسطين
رئيس تحرير صحيفة “العرب” القطرية الصحفي والكاتب القطري فالح الهاجري
بكلمات مؤثرة، رثى رئيس تحرير صحيفة “العرب” القطرية الصحفي والكاتب القطري فالح الهاجري الشهيد إسماعيل هنية، الذي تم اغتياله قبل أيام في العاصمة الإيرانية طهران، مشددا على أهمية صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته بوجه الاحتلال الإسرائيلي.
كما أوضح الهاجري في مقال نشره في صحيفة “العرب” القطرية، اليوم الأحد، موقف دولة قطر من قضية الشعب الفلسطيني العادلة، مشددا أن “هذا المبدأ الثابت تجاه فلسطين والنهج القويم لم تُغيره دولة قطر وحكومتها وقيادتها الرشيدة”.
وجاء في مقال الهاجري:
لطالما كانت قضية فلسطين مصدر إلهام وعزّة لكل الشعوب التي تطالب بحقوقها المشروعة في العيش بكرامة وعدالة وسلام، ولم تتعب سواعد أبناء فلسطين يوما عن رفع راية النضال والتحرير، والحق المشروع بالعودة إلى الوطن، وكلما استشهد قائد من أبنائها جاء آخر ليحمل المهمة بكل عزيمة وإصرار.
ورغم نزول خبر استشهاد الدكتور إسماعيل هنية كالصدمة لكل أبناء فلسطين وغزّة، وأبناء الأمة العربية والإسلامية، والأحرار في العالم، وهو الذي ظل لأكثر من ثلاثين عاما، رمزا من رموز الكفاح والصمود الشعبي الفلسطيني، عانى وكابد المرارة، حين كان على رأس حكومة غزّة، وفي مشاركته في ملفات المصالحة الفلسطينية، وفي المفاوضات مع المحتل الغاشم، بعد معركة طوفان الأقصى، وكانت خاتمته باغتيال غادر في إيران.
وهذا العمل المشين الذي أدانته الحكومة القطرية على الفور، واعتبرته ضربة في مسيرة السلام والمفاوضات لحل الأزمة في غزة، وصرح بذلك رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني “إن نهج الاغتيالات السياسية والتصعيد المقصود ضد المدنيين في غزة في كل مرحلة من مراحل التفاوض، يدفع إلى التساؤل: كيف يمكن أن تجري مفاوضات يقوم فيها طرف بقتل من يفاوضه في الوقت ذاته؟ السلام الإقليمي والدولي بحاجة لشركاء جادين وموقف دولي ضد التصعيد والاستهتار بأرواح شعوب المنطقة”.
وتمت الصلاة على جثمان الدكتور هنية في قطر وسط مشاركة رسمية وشعبية، وبحضور حضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدى الشيخ تميم بن حمد آل ثاني (حفظه الله) وسمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني (حفظه الله)، ووفود رسمية من دول عدة، وكان الاهتمام القطري البالغ بالحدث؛ لأنه يمثل موقف قطر التاريخي من القضية الفلسطينية، وشعبها الصامد والصابر والمقاوم، وهو موقف يدعو للعدل، ونبذ العنف، وبناء مشروع للسلام الشامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بما يحقق تأسيس دولة فلسطين المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف، وفق قرارات الشرعية الدولية، وهذا المبدأ الثابت، والنهج القويم الذي لم تُغيره دولة قطر وحكومتها وقيادتها الرشيدة في جميع مواقفها وتصريحاتها وبياناتها بالمحافل الوطنية والإقليمية والعربية والعالمية، ونادى به حضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدى أكثر من مرة، من أعلى برلمان سياسي عالمي “الجمعية العامة للأمم المتحدة”، وهو تأكيد على أن قضية فلسطين ليست قضية أشخاص، بل قضية وطن، وفكرة راسخة، وحق مشروع لا ينتزع من أصحابه لا بالقوة ولا باللين.
كان إسماعيل هنية “أبو العبد” رمزا من رموز المقاومة، والعمل الجماعي، والتفاني لأجل قضية فلسطين، وهو الذي لم يذق طعم الراحة، ورغد العيش يوما، فهو حمل همّ قضيته، وقهر أبناء وطنه، وأفنى حياته، وحياة أسرته في مسيرة الكفاح، والدفاع عن قضيته في التحرير، وعن حقوق أمته العربية والإسلامية، ولم يرضخ للمحتل، وصبر على الابتلاء، ولم يستسلم للظلم والقهر والملاحقة ومحاولات الاغتيال المتكررة، بل رحل بعد أن خلده التاريخ نموذجا للقيادة الشجاعة والحكيمة، وصوتا عاليا للحق في مواجهة الباطل.
لو تتبعنا تاريخ هنية لوجدنا أنها نفس الخطوات التي سار عليها أسلافه وشيوخه، إذ تخرج من مصانع الرجال الشهداء، من أمثال الشهيد عز الدين القسام والشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي ونزار ريان وسعيد صيام، وغيرهم من أبطال المقاومة، وهو القدوة المربي الذي كان يؤم المصلين في الصلاة، ويرتقي بمأموميه منازل التزكية في جو روحاني يقف بهم متدبرا آيات الشكر والصبر والابتلاء، والشهادة، سائلا الله أعلى المنازل، مستذكرا آلاف السابقين من الشهداء الذين ارتقوا من غير تبديل ولا تحريف، متضرعا إلى مولاه يسأله اللحاق بهم في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.
أقوال هنية تحولت لدستور أسس لجيل من الشباب الفلسطيني البطل، فهو الذي عاش ظلمة السجن لسنوات، وكان قدوة من وراء القضبان، ومثلا أعلى في الصبر على الابتلاء، والثبات في المحن، ولاقى من عسف المحتلين، فما لان ولا استلان، وكان مع المنفيين إلى مرج الزهور في لبنان، وظل مبعدا ثابتا مع إخوانه، حتى عاد مرفوع الرأس إلى غزة، مستأنفا مشواره النضالي الحافل، وكان رجوع هنية ورفاقه من المرج، بداية دحر العدو، وإرغامه.
عاش هنية رئيس وزراء بين بسطاء الناس في مخيم الشاطئ في غزّة، وعرفه الجميع أبا رحيما وحنونا، وله مقولة “بصفتي رئيس للوزراء أتشرف بالعيش في مخيم الشاطئ للاجئين”.
ورغم ما ساوموه وأغروه، ظل يردد في خطاباته مقولته المشهورة التي حفظتها الأجيال ولن تنساها ما بقي المحتل “لا، لن نعترف، لن نعترف، لن نعترف بإسرائيل”.
وقوله في الشهادة والموت لأجل فلسطين “نحن قوم نعشق الموت كما يعشق أعداؤنا الحياة، ونعشق الشهادة على ما مات عليه القادة”.
بهذه القواعد والأخلاق العظيمة، نظّم هنية الصفوف، وقاد الجماهير في الانتفاضات، وامتاز في مشواره القيادي الموفق بالقدرة على جمع القلوب، فهو سهل الخليقة لين في أيدي إخوانه، شديد على أعدائه، وحين تنظر في قسمات وجهه في ظهوره المستمر، تقرأ تاريخ القضية الفلسطينية؛ من انتفاضتها الأولى، وأيام التجنيد في أزقة المخيمات، وبداية حلقات القرآن في المساجد، والسعي الدؤوب لإنشاء النقابات المهنية، وتشكيل الخلايا العسكرية الأولى والثانية والثالثة، وترى في وجهه عنفوان الانتفاضة الثانية، وما لحقها من وداع القادة المؤسسين، وتحمل الأمانة الثقيلة حتى ارتقى إلى جوار ربه تعالى.
لم تنته قضية فلسطين التاريخية بموت الدكتور هنية، ولم يكن موت رجال المقاومة في فلسطين، قبل هنية ضعفا للقضية، وانهيارا أو تخاذلا لشعبها، ولم يَدفن المحتلون الآمال والطموحات والثوابت الفلسطينية في تراب النسيان، وكما حمل هنية الراية، وأدى الرسالة، ولم تسقط بموته، يتابعها رجال من بعده، ولتظل قضية تاريخية؛ قضية كفاح وصمود، وقضية مقاومة للمحتلين الذين يدركون قبل غيرهم أن الشعب الفلسطيني باقٍ ببقاء إيمانهم بالله راسخا، وببقاء الزيتون صامدا، فهم اغتالوا كثيرا من القادة واحدا تلو الآخر، ورغم أنهم وصلوا للقادة بأيديهم الغادرة في المهجر، ولكن في غزّة يذوقون المرارة، ويعانون العذاب، ويخوض جنودهم أعقد حرب عسكرية في تاريخهم، ورغم أن غزة لا تمتلك أنظمة وتقنيات حماية ومراقبة عالية، ولا جهازا استخباريا تدعمه أكبر القوى العالمية، إلا أنه في غزة رجال صادقون، يخلصون النية لله في سعيهم، وصبرهم، وثباتهم. ولذلك، لا تموت قضية فلسطين، بموت أحد رجالاتها، ولا بد أن ينتصر أصحاب الأرض والحق والتاريخ “شعب فلسطين” عاجلا أم آجلا بإذن الله.