في خطوة لافتة تصدرت واجهة الأحداث المتعلقة بالقضية الفلسطينية مؤخرا، شهدت العاصمة القطرية الدوحة الجمعة 2 آب/أغسطس 2024، مراسم تشييع ودفن الشهيد إسماعيل هنية، وسط حضور رسمي وشعبي كبير.
وحملت هذه الخطوة في طياتها العديد من الرسائل السياسية والدبلوماسية التي تستحق التوقف عندها وتحليلها، بحسب مراقبين.
ومن أبرز ما لفت الأنظار في هذا الحدث هو اختيار مكان دفن هنية، إذ تم دفنه في مقبرة “الإمام المؤسس” في مدينة لوسيل، والتي تبعد قرب العاصمة القطرية الدوحة.
وتكمن أهمية هذه المقبرة في كونها مخصصة تاريخياً لدفن أفراد الأسرة الحاكمة في قطر، حيث لم يُدفن فيها سوى أربعون شخصاً من العائلة المؤسسة للدولة القطرية.
هذا الاختيار يحمل في طياته رسالة سياسية قوية من القيادة القطرية، مفادها أنها تعتبر هنية فرداً من العائلة الحاكمة، وذلك تقديراً لدوره ونضاله في القضية الفلسطينية.
كما أنه يعكس مدى التقارب بين قطر وحركة “حماس”، وحجم الدعم الذي تقدمه الدوحة للقضية الفلسطينية بشكل عام، حسب محللين وأكاديميين.
وشهدت مراسم التشييع والدفن حضوراً لافتاً من قبل القيادة القطرية، حيث شارك أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني شخصياً في الجنازة، إلى جانب والد أمير قطر وعدد كبير من الأسرة الحاكمة.
وفي لفتة ذات دلالة خاصة، لم يضع الأمير عقاله على رأسه خلال مراسم التشييع، وهو ما يعتبر في الثقافة العربية إشارة إلى أن المتوفى يعد من أفراد العائلة.
كما شهدت الجنازة حضوراً واسعاً من ممثلي الدول الإسلامية ومسلمين من مختلف أنحاء العالم، بالإضافة إلى مشاركة نائب رئيس الوزراء للشؤون السياسية المولوي عبد الكبير ودبلوماسيين من الحكومة الأفغانية في قطر، ما يعكس مدى الاهتمام الإقليمي والدولي بالحدث، ويؤكد على مكانة هنية ودوره في القضية الفلسطينية.
وخلال التشييع، وجه القيادي في حركة المقاومة الإسلامية “حماس” خالد مشعل رسالة إلى دولة قطر.
وأشاد مشعل بموقف قطر أميراً وشعباً وحكومة، مثمناً دعمهم لحركة “حماس” والقضية الفلسطينية، مؤكدا أن “قطر وقفت مع الحركة حين تخلى عنها آخرون، وقدمت لهم المأوى والنصرة”.
وأشار مشعل إلى أن “دفن هنية في قطر يأتي تقديراً لهذا الموقف”، معتبراً إياه “شرفاً للحركة أن يدفن قائدها في مقبرة الإمام المؤسس”.
وقال مشعل في كلمته “يا سمو أمير قطر، يا سمو الأمير الوالد، يا شعب قطر ويا حكومة ورجال قطر، رفع الله شأنكم، شكرا لكم يا قطر”.
وأضاف “حين غاب الكثيرون حضرتم، حين خذلنا الكثيرون نصرتمونا، حين لم نجد مأوى آويتمونا، ولذلك كان حقاً أن يعيش أبو العبد (إسماعيل هنية) قائدا حياً على أرض قطر ثم يدفن فيها، لا أقول ميتاً بل قائداً حياً عند ربه يرزق مع صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسبنا أولئك رفيقاً”.
وتابع “لا شك لدي بأن الله سيحفظ قطر، فهنيئاً لك يا سمو الأمير، هنيئا لك يا سمو الأمير الوالد، وفخر لنا أن يدفن أبو العبد في مقبرة الإمام المؤسس في قطر”.
وختم قائلا، إن “الحياة مواقف والحياة رجولة وكم من كبار كنا نظنهم كباراً ولكنهم لم يظهروا كذلك، بينما قطر طوال غمرها كبيرة وزادها الله عظمة ومكانة، فرفع الله شأنكم”.
وفي هذا الصدد، تحدث الناشطة السياسية الفلسطينية ليلى جرار لـ”وكالة أنباء تركيا” قائلة “في البدايه لا يسعني إلا أن أقدم عزائي والرحمة والمغفرة لروح شهيدنا القائد الموقر الشيخ إسماعيل هنية الذي وافته المنية غدراً وبهتاناً من قِبَل الكيان العنصري الصهيوني، وهذا ما اعتدنا عليه من أيدي الغدر والإجرام بحق مناضلينا الأشاوس”.
وأضافت “وما اعتدنا عليه أيضاً هو احتضان ومساندة دولة قطر وأميرها وحكومتها وشعبها العظيم لنضالات أمتنا العربية والإسلامية ودعمها لشعوب وقضايا الأمة العادلة والخيّرة. فلدولة قطر وأميرها كل التقدير والتعظيم باحتضانها جنازة المغدور السيد هنيه ودعمها اللامحدود لغزة في محنتها السابقة والحالية وللشعب الفلسطيني والعربي عامةً، ولكل المنكوبين والمشردين من مبعدين وجرحى لعلاجهم مثال مراسل الجزيرة الصحفي وائل الدحدوح، الذي فقد أسرته وصحته والتقطته قطر لعلاجه وتقديمه للعالم لوصف حجم الإجرام والتعسف بحق المدنيين العزل”.
وتابعت جرار “تحية تقدير لقطر حكومةً وشعباً لاحتضانها جثمان القائد هنية وتكريمه كشهيد للأمة الإسلامية والعربية عامةً، ضاربة بعرض الحائط أراء وتقييمات دول التطبيع المجاورة لها، والعنجهية الصهيونية والأمريكية المتحيزة للاحتلال الصهيوني”.
وأكد مراقبون أنه يمكن استخلاص عدة رسائل سياسية ودبلوماسية من احتضان قطر لقبر الشهيد إسماعيل هنية، أهمها تأكيد قطر على دعمها الثابت للقضية الفلسطينية وحركة “حماس”، رغم الضغوط الإقليمية والدولية، إضافة إلى إظهار قوة العلاقات بين قطر وحركة “حماس”، وتأكيد دور الدوحة كوسيط مهم في القضية الفلسطينية.
كما أن قطر أرادت توجيه رسالة إلى المجتمع الدولي بأنها تتخذ موقفاً مستقلاً في سياستها الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إضافة إلى إعادة تأكيد مكانة قطر كداعم رئيسي للقضايا الإسلامية والعربية، وخاصة القضية الفلسطينية.
وأرادت قطر توجيه رسالة ضمنية إلى الاحتلال الإسرائيلي والدول المطبعة معها، بأنها لا تزال ملتزمة بدعم المقاومة الفلسطينية.
وقال الكاتب والباحث السياسي يمان دابقي لـ”وكالة أنباء تركيا”، إن “لقطر مكانة ودور فعال وحيوي يكاد يضاهي الدور المصري في دعم القضية الفلسطينية، عبر دور الوساطة الذي اكسبها مكانة وسمعة في الساحة الدولية. ولا شك احتضانها لجثمان اسماعيل هنية ودفنه في مقبرة لوسيل التي لها أهمية كبيرة على مستوى الطبقة الحاكمة في قطر، وما شهدناه من مراسيم تأبين وحضور سمو الشيخ تميم بن حمد في الصفوف الأولى، يعكس الصورة الرمزية والمعنوية والفكرية أيضاً لسمعة قطر ودورها الهام في العالمين العربي والإسلامي، واحتضانها شخصية مثل إسماعيل هنية صاحب مسيرة حافلة في دعم قضيته، يشير إلى تأكيد قطر وتمسكها على مبادئها في محيطها العربي، ومجلس التعاون الخليجي، على عكس بعض الدول العربية التي أصدرت بيانات خجولة ومنها لم ينعى هنية حرصاً على مصالحهم مع كيان الاحتلال”.
وأضاف أن “دولة قطر أصبحت دولة مركزية في محيطها العربي ودورها الحيوي كوسيط في الملفات الدولية كأفغانستان وحماس وغيرها، تحولا لرصيد قيمي وأخلاقي في المنطقة، وقد تُساهم لاحقاً في تحقيق الاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط”.
ولاقت هذه الخطوة القطرية ردود فعل واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، إذ أجمع محللون على أنها خطوة قد تؤدي هذه الخطوة إلى تعزيز دور قطر كوسيط في القضية الفلسطينية، خاصة في ظل الجهود الدبلوماسية المتواصلة لتحقيق تهدئة في قطاع غزة وتبادل الأسرى بين حماس والاحتلال الإسرائيلي، وفق وجهة نظرهم.
وقال الشاعر الكويتي أحمد الكندري “تشرفت دولة قطر الشقيقة باستقبال شهيد الأمة إسماعيل هنية حيا وميتا، واحتضنت المقاومة ورحبت بهم، فنالت شرف العزة والنصرة”، مضيفا “جزى الله قادتها وشعبها خيرا على هذه المروءة وهذا الشرف العظيم”.
وقال الدكتور عبد الله العمادي، كاتب صحفي والمستشار السابق لوزارة التعليم العالي القطرية “الحمد لله أن رزقنا الله حضور صلاة الجنازة على الشهيد إسماعيل هنية ونحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا، في مشهد غير مسبوق في قطر، حيث آلاف المصلين الذين ازدحم بهم المسجد، من جنسيات شتى، عربية وغير عربية، جمعهم الدين الواحد، والهم الواحد، رغم حرارة الطقس وشدة الإجراءات الأمنية التنظيمية”.
ونشر الدكتور محمد الصغير رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبي صلى الله عليه وسلم قائلا “خرجت قطر كلها والدا وولدا، أميرا وشعبا” لوداع ضيفها، وصلوا جميعا على فقيد الأمة اسماعيل هنية في أكبر مساجدها، ودفنوا جثمانه في مقبرة جدهم المؤسس. أسأل الله أن يتولى شكرهم وحفظهم، وأن يثبت على الحق أقدامهم، ويرد عنهم بصنائع المعروف مصارع السوء. شكرا قطر”.
بدوره، قال الإعلامي القطري جابر الحرمي “نسأل الله عز وجل في علاه أن يُعزك ويرفع شأنك ويُعلي ذكرك في الدارين”، مضيفاً “جزى الله تميم بن حمد آل ثاني خير الجزاء على هذه المواقف المشرفة التي ستظل محفورة في التاريخ بأحرف من نور. فخور أن تميم بن حمد أميري وقائدي”.
ووسط كل ذلك، يمكن القول حسب مراقبين إن احتضان قطر لقبر إسماعيل هنية ومشاركة قيادتها في تشييعه يعد خطوة ذات أبعاد سياسية ودبلوماسية عميقة. فهي تعكس موقف قطر الثابت من القضية الفلسطينية، وتؤكد على دورها الإقليمي كداعم رئيسي للمقاومة الفلسطينية. كما أنها تطرح تساؤلات حول مستقبل العلاقات الإقليمية والدولية في ظل هذا الموقف القطري الواضح والصريح،.