في الحديث الشريف عن الصحابي الجليل عبدالله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه، صاحب رؤية الأذان؛ أنه أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فقَالَ عليه الصلاة والسلام له :”فَاخْرُجْ مَعَ بِلالٍ، فَأَلْقِهَا عَلَيْهِ، وَلْيُنَادِ بِلالٌ، فَإِنَّهُ أَنْدَى مِنْكَ صَوْتًا”، فنرى في هذا الحديث صورة واضحة لثلاثة أطراف أساسية تُسهِم في تحقيق فكرة على أرض الواقع ونجاحها: المفكر، والمقرر، والمنفذ.
في هذا الحديث؛ نرى أن عبدالله بن زيد رضي الله عنه كان صاحب الفكرة الأولى للأذان، لكنه لم يكن صاحب القرار النهائي في إدراجها في الخطة التنفيذية (إن جاز لنا التعبير)، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم هو من قرر اعتمادها (بوحي من الله تعالى).
وأما بلال بن رباح رضي الله عنه، فكان المنفذ الذي صدح بالأذان بصوته العذب، بعد أن أُمر بذلك.
هذا التفاعل بين الأطراف الثلاثة (المفكر، والمقرر، والمنفذ) يمكن أن يكون مثالاً نموذجياً على كيفية تحقيق الفكرة وتحويلها إلى واقع ملموس. ففي الحياة العملية، قد تتباين هذه الأدوار وتتشكل بطرق متعددة، مما يعكس مرونة النظام الاجتماعي والدعوي.
أولاً المفكر والمقرر واحد والمنفذ مختلف:
في هذه الحالة؛ يتولى الشخص الأول توليد الفكرة واتخاذ القرار بشأن تنفيذها، بينما يتم توكيل شخص آخر لتنفيذها على أرض الواقع.
ثانياً المفكر والمنفذ واحد والمقرر مختلف:
هنا؛ قد يكون المفكر هو نفسه الذي يقوم بتنفيذ الفكرة، لكن القرار بتطبيقها يأتي من شخص آخر، مما يضمن توافق الفكرة مع الخطة العامة.
ثالثا المقرر والمنفذ واحد والمفكر مختلف:
في هذا السياق، شخص واحد يتخذ القرار ويقوم بالتنفيذ، لكنه يعتمد على فكرة شخص آخر، مما يعكس تقديرًا لفكر الآخرين واستثمارًا في قدراتهم.
رابعاً المفكر طرف، المقرر طرف المنفذ طرف:
وفي هذه الحالة، نرى تكاملاً بين عدة أطراف، كلٌ منهم يساهم بدور مختلف في إنجاح الفكرة، مما يعزز روح التعاون والشورى في العمل.
وفي هذا المقام تأتي بما تسمى القيادة الحكيمة التي تعرف كيف تستفيد من قدرات جميع الأطراف لضمان النجاح وتحقيق الأهداف المشتركة، من خلال التفاعل بين (المفكر، والمقرر، والمنفذ).
وهذه القاعدة الذهبية لم تكن حكراً على قصة الأذان فقط، بل تكررت في مواقف عديدة من أحداث السيرة النبوية العطرة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر:
بعثة مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة:
عندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم نشر الإسلام في المدينة قبل الهجرة، اختار الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه ليكون أول سفير للإسلام في المدينة.
الفكرة والقرار كانا من النبي صلى الله عليه وسلم، بينما مصعب رضي الله عنه كان المنفذ الذي نجح في دعوة عدد كبير من أهل المدينة إلى الإسلام.
غزوة الخندق:
كانت فكرة حفر الخندق من بنات أفكار الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه. لكن القرار بتبني هذه الفكرة جاء من النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أمر الصحابة بتنفيذها. هنا نرى تكاملاً بين دور المفكر (سلمان الفارسي)، والمقرر (النبي صلى الله عليه وسلم)، والمنفذ (الصحابة) رضوان الله عليه أجمعين.
صلح الحديبية:
في صلح الحديبية، كان الصحابي عثمان بن عفان رضي الله عنه هو المفاوض الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليفاوض قريش. النبي عليه السلام كان صاحب الفكرة والقرار بتقديم الصلح، وأرسل عثمان كمبعوث للتفاوض. هذا الموقف يُظهر كيف يمكن أن يتمثل المفكر والمقرر بشخص واحد والمنفذ مختلف، ويُبرز أهمية التوزيع الصحيح للأدوار لتحقيق النجاح.
أما في زمن المؤسسات المعاصرة، سنجد أن كل طرف من الأطراف الثلاثة (المفكر، المقرر، والمنفذ) يمكن أن يتحول إلى مؤسسة قائمة بذاتها، وهو ما يتماشى تمامًا مع العنصر الرابع الذي يذكر أن (المفكر والمقرر والمنفذ) يمكن أن يكونوا أطرافًا منفصلة ومستقلة. لذلك نرى أن مراكز الدراسات اليوم تقوم بدور المفكرين، حيث تتخصص في البحث وتوليد الأفكار والحلول. ثم تأتي المؤسسات التي تتخذ القرار بناءً على تلك الأفكار، وهي التي تقرر ما إذا كانت الفكرة ستتحول إلى مشروع قابل للتنفيذ. وأخيرًا، تحيل هذه المؤسسات القرارات إلى الجهات التنفيذية التي تقوم بتنفيذ الفكرة وتحقيقها على أرض الواقع.
هذا النموذج المؤسسي يعكس بشكل واضح القوة التنظيمية والقدرة على توزيع الأدوار بشكل احترافي، وهو ما حققته الولايات المتحدة الأمريكية بشكل لافت. الولايات المتحدة حولت كل جانب من الجوانب (التفكير، اتخاذ القرار والتنفيذ) إلى مؤسسات متخصصة، مما خلق بيئة من التكامل الفعال بينهم. هذا التكامل المؤسسي هو ما يمكن أن نعتبره “أسطورة” الولايات المتحدة، حيث استطاعت أن تجعل من كل شيء مؤسسة، ما ساهم بشكل كبير في تقدمها وتحقيقها لإنجازات كبيرة على الساحة العالمية.
إذا استطعنا نحن كأمة إسلامية أن نحسن هذا النموذج ونعمل به بفعالية، يمكننا أن نقطع خطوات ضوئية في صراعنا الحضاري. من خلال تحويل الأفكار إلى مؤسسات متخصصة، واتخاذ القرارات بناءً على دراسات معمقة، وتنفيذ المشاريع بدقة واحترافية، يمكننا أن نحقق تطورًا سريعًا ومؤثرًا. المؤسسات ليست مجرد مبانٍ أو هياكل إدارية، بل هي أدوات قوية لتحويل الأفكار إلى واقع، ولتحقيق التقدم في كل المجالات.
هذه الأمثلة وغيرها تُبرز أهمية التعاون بين الأطراف المختلفة لتحقيق الأهداف المشتركة، وتعكس كيف يمكن أن يؤدي التوزيع الحكيم للأدوار إلى تحقيق نجاحات كبيرة على المستويين الفردي والجماعي.
يمكننا أن نستنبط من هذا التفاعل بين الأطراف الثلاثة في تنفيذ الأفكار أهمية التعاون والتكامل في تحقيق الأهداف. فالمفكر يمثل البذرة الأولى التي تنبت منها الفكرة، والمقرر هو الذي يسقيها ويعطيها الشرعية والموافقة على الانطلاق، أما المنفذ فهو الذي يحول الفكرة من مجرد نظرية إلى واقع ملموس يستفيد منه المجتمع.
والتناغم بين هذه الأدوار الثلاثة هو ما يضمن فعالية التنفيذ ونجاح الفكرة. فلو افتقد أي من هذه الأطراف دوره أو لم يتقنه، فقد تفشل الفكرة حتى لو كانت عبقرية.
ويمكن الاستفادة من هذا النموذج الثلاثي في المؤسسات الحديثة والدعوية لإنشاء بيئة عمل تعاونية ومتكاملة، حيث يتم تشجيع التفكير الإبداعي، واتخاذ القرارات الحكيمة، وتنفيذ المهام بفعالية. ومن هنا، يصبح كل فرد في المؤسسة جزءًا لا يتجزأ من منظومة النجاح، ويساهم كل بدوره في تحقيق الهدف المشترك.
في الختام:
إن هذا النموذج الثلاثي (المفكر، المقرر، المنفذ) يمثل قاعدة ذهبية في تنظيم الجهود لتحقيق أي هدف سواء في العمل الدعوي أو في الحياة العملية. فعندما يتكامل التفكير الإبداعي مع القرار الحكيم والتنفيذ الفعال، تكون النتيجة دائمًا نجاحًا ملموسًا بإذن الله تبارك وتعالى ينعكس إيجابيًا على المجتمع ككل.
هذه القاعدة ليست فقط درسًا تاريخيًا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي منهج عملي يمكن أن يطبق في كل زمان ومكان لبناء مشاريع ناجحة ومؤثرة.