في خضم التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، تبرز تركيا كقوة إقليمية فاعلة تتخذ مواقف حازمة في مواجهة تصعيد عدوان الاحتلال الإسرائيلي المتواصل ضد لبنان وغزة.
وتكتسب هذه المواقف أهمية استثنائية في ظل محاولات الاحتلال الإسرائيلي المتكررة لتوسيع نطاق عدوانه، وسط مخاوف متزايدة من انزلاق المنطقة نحو حرب شاملة.
ويتجلى الدور التركي في هذا السياق من خلال تحركات دبلوماسية نشطة يقودها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية التركي هاكان فيدان.
وتكتسب التحذيرات التركية من انزلاق المنطقة لحرب أهلية، أهمية خاصة في ضوء تصريحات أردوغان الأخيرة التي أكد فيها أن “أي محاولة إسرائيلية لاجتياح لبنان لن تشبه الاحتلالات السابقة”، في إشارة واضحة إلى تغير موازين القوى في المنطقة وعدم قدرة الاحتلال الإسرائيلي على تكرار سيناريوهات الماضي.
وتتميز المقاربة التركية للأزمة بشموليتها وتعدد مساراتها، حيث تجمع بين الضغط الدبلوماسي على الاحتلال وأعوانه والدعم الإنساني والإغاثي والإعلامي والسياسي للبنان وشعبه.
فعلى الصعيد الدبلوماسي، تبذل تركيا جهوداً حثيثة لفضح ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وكشف حقيقة انتهاكاته المتواصلة ومحاسبة قادته السياسيين والعسكريين.
وفي هذا السياق، لم يتردد الرئيس التركي بتشبيه سياسات حكومة نتنياهو بممارسات هتلر، مستعرضاً سلسلة طويلة من الجرائم والانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، والتي تشمل الإبادة الجماعية والمجازر والتطهير العرقي واستهداف المدنيين والمنشآت الحيوية.
وما يميز الموقف التركي في هذه المرحلة الحساسة هو إدراك تركيا العميق لخطورة مخطط الاحتلال إسرائيلي الرامي إلى توسيع نطاق الحرب في المنطقة، فقد حذر أردوغان مراراً من أن عدوان الاحتلال الإسرائيلي المتكرر على الأراضي اللبنانية تكشف بوضوح عن نوايا الاحتلال في جر المنطقة بأكملها إلى دوامة من العنف والصراع.
وحول ذلك، قال الكاتب والمحلل السياسي فراس السقال لـ”وكالة أنباء تركيا”، إنه “كما يقولون إذا وقع القدر عَمي البصر، والحروب عندما تنشب نيرانها يصعب درؤها، لا سيما إن كانت بين طرفين غير متعادلين”.
وأضاف أن “المشهد اللبناني الحالي تديره دول عدّة، وتلعب بمصير بلد وشعب وسيادة، فمثلاً باريس لها كلمة، وواشنطن لها كلمة، والرياض لها كلمة، وطهران لها كلمة، وكذلك دمشق، كلّ ذلك جعل الجهود الضالعة في تسكين الأوضاع، وتهدئة الجبهات، وخفض التصعيد شبه معدومة، ومن تلك الجهود المبذولة على هذا الصعيد الجهود التركية”.
وتابع السقال أن “ما نراه من الحكومة التركية مقبول إلى الآن، في التصريحات النارية ضد العدوان الإسرائيلي، والدعم السياسي للبنان في حقّها المشروع في الدفاع عن أرضها وشعبها، ورفع الصوت في المحافل الدولية للحدّ من الإجرام الصهيوني على لبنان غزّة”.
وزاد قائلا إنه “إضافة إلى الجهود الإغاثية التي لم تتوقف، فقد أرسلت تركيا العديد من شحنات المساعدات الإنسانية إلى بيروت”.
ولفت السقال إلى أن “أنقرة تعمل ضمن حدودها المشروعة، ولكنها نسيت بعض الشيء أنّها تتعامل مع عدوان لا يحترم مبادئ النديّة، ولا يعترف بالقرارات الدوليّة، ولا يخضع للأمم المتحدة، ولا لمجلس الأمن، ولا لأيّ منظمة حقوقية أو إنسانية أو شرعية، كيف لا.. والدول العظمى أمريكا ومعها دول الغرب تدعم إسرائيل في غيّها وعربدتها؟! لذلك أرى أنّ مهمّة تركية مُهمة وصعبة وضرورية، فعليها الاستمرار في رفع صوتها، ومع ذلك عليها أن تلوح بالعصى، فالعدو المقابل لا يفهم إلّا بلغة القوة والحديد والنار، فلا شيء يوقفه أو يردعه إلا ذلك”.
وأكد أن “تركيا أن تؤسس تحالفاً واسعاً مناهضاً لممارسات إسرائيل في المنطقة، والتي لن تتوقف حتى تصل إلى منابع الفرات ودجلة حسب معتقداتها، كما أن ما يغيظ الأعداء هو المنافسة في الصناعة العسكرية فالتقدم على الصعيد العسكري والتقني عامل فعال في ردع الاحتلال الإسرائيلي ومن معها، وعلى تركيا أن تستقطب إلى جانبها جميع دول المنطقة لا سيما الدول العربية، وخاصة تلك التي تزبد وترعد بالتطبيع مع العدوان الصهيوني الآثم”.
وختم السقال قائلاً “ما أراه الآن هو بداية النهاية لكلّ ظالم، فقد رفعت تركيا منذ عقدين ونيف راية الدفاع عن المظلوم وحمايته وإغاثته ونصرته، ويلزم من هذه الراية الوقوف في وجه كلّ ظالم ومستبد ومجرم، فلن ينفع هذا الحلف أن يجتمع فيه ظالم ومظلوم، فالنظام السوري وإيران وحزب الله لا مكان لهم في هذا الحلف إن تحقق، ومُحال أن يكونوا يوماً في نصرة المظلوم، فعداوتهم نصرٌ لكلّ مظلوم، ومحالفتهم خذلان لكل مظلوم”.
وفي سياق متصل، تتجلى جدية الدور التركي أيضا بحجم المساعدات الإنسانية التي تقدمها للشعب اللبناني والعائلات المتضررة من عدوان الاحتلال الإسرائيلي، فبالتوازي مع تحركاتها الدبلوماسية، تحرص أنقرة على تقديم الدعم المادي والإنساني للمتضررين، مؤكدة التزامها بالوقوف إلى جانب الشعب اللبناني في مواجهة التحديات الراهنة.
ويكتسب الموقف التركي أهمية إضافية في ظل ما يشهده النظام الدولي من أزمة مصداقية حادة، وما وصفه أردوغان بـ”الانهيار الأخلاقي الواضح” في المؤسسات المنوط بها حفظ السلام والأمن الدوليين، وفي هذا السياق، يأتي التحرك التركي ليملأ فراغاً كبيراً خلفه تقاعس المجتمع الدولي عن القيام بمسؤولياته في وقف العدوان الإسرائيلي وحماية المدنيين.
وتعكس دعوة أردوغان المتكررة للدول المسؤولة عن السلم الدولي للتحرك العاجل إدراكاً عميقاً لخطورة الوضع الراهن، فتأكيده أن “الإنسانية ليس لديها حتى يوم واحد لتخسره” يشير إلى إلحاح الموقف وضرورة التحرك السريع لوقف التدهور المتسارع في المنطقة.
ورغم التحديات الكبيرة التي تواجه الجهود التركية، والتي تتمثل في استمرار التعنت الإسرائيلي وضعف الموقف الدولي وتعقيد المشهد الإقليمي، تواصل أنقرة دورها الفاعل في محاولة لجم العدوان الإسرائيلي وحماية السيادة اللبنانية، ويبدو أن تركيا مصممة على مواصلة هذا الدور رغم كل العقبات، مدركة أن حماية لبنان وسيادته تمثل خطاً أحمر لا يمكن التهاون بشأنه.
وقالت الكاتبة والناشطة السياسية ليلى جرار لـ”وكالة أنباء تركيا”، إن “تركيا أعلنت رسميا وشعبيا عن رفضها رفضا قاطعا وباستياء حكومي عالي المستوى عن إدانة وخطورة العدوان الصهيوني الإجرامي الهمجي والسافر دون أي اعتبار للقوانين الدولية والمعارضة الشعبية من الكثير من الدول، والمخاوف المرتقبة من توسع تلك الحرب حرب الإبادة والاحتلالات للأراضي وتوسع الأحلام الصهيونية ومشروعها العنصري من النيل للفرات”.
وأضافت جرار أنه “يمكن لتركيا أن تقوم بمجموعة من الأعمال الهامة، التي تفضح وتعري العدوان الإسرائيلي على لبنان وفلسطين، من مثل: حملة واسعة من الإعلام التركي ضد الاحتلال الإسرائيلي وتسليط الضوء على جرائمها، إلى جانب حملة واسعة ومنظمة من الدبلوماسية التركية ومواجهة النشاط الدبلوماسي الإسرائيلي ومحاصرته، وحملة واسعة ضد الاستيطان الصهيوني في الضفة وضد نقل البعثات الدبلوماسية إلى القدس، وتعزيز الحضور التركي في الضفة الغربية وغزة من خلال البعثات الطبية والدراسية، والدعوة إلى إنشاء هيئات دائمة لدعم القضية الفلسطينية في تركيا من منظمات سياسية ومجتمع مدني ونقابات ورجال سياسة أحزاب”.
وتابعت أنه “إضافة إلى تفعيل دور الجامعات والهيئات التدريسية والطلبة في التضامن والإسناد مع وللشعب الفلسطيني، ومقاطعة البضائع والمنتجات الإسرائيلية في الأسواق التركية، والتعامل الجدي مع إنشاء محور عربي إسلامي عالمي ثالثي لصالح دعم الشعب الفلسطيني وقضيته”.
وفي ظل هذه المعطيات، يمكن القول إن الدور التركي في حماية السيادة اللبنانية يمثل نموذجاً للدبلوماسية النشطة والفاعلة التي تجمع بين الضغط السياسي والدعم الإنساني، وتبرز أهمية هذا الدور بشكل خاص في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها المنطقة، حيث تحتاج الساحة اللبنانية إلى دعم إقليمي قوي في مواجهة التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة.