مدونات TR

تركيا.. إلى أين ؟ لا تتخطي حدودك!

ربما هو عنوان مستفزُ يمنحك فرصة الولوج في تفاصيله لمعرفة النقاط التي ستردّ بها على الكاتب، وأنت تستذكر البطولات التركية الحديثة ومجدها وتاريخها العريق الذي يمتد لقرون طويلة ومساحات شاسعة، وربما يمنحك هذا العنوان فرصة لمعرفة التفاصيل التي يمكن من خلالها معرفة النقاط التي ستضرب فيها تركيا وتلقي بصنارتك في مياهها العكرة لتلقف كما لقفوا من قبل.

لنرى…

نشأت تركيا اليوم بحدودها الحالية منذ حوالي قرن من الزمن كنتيجة طبيعية لعوامل خارجية وداخلية وتاريخية، ووصلت في نهاية المطاف لحال يجمع جبال الأناضول وشواطئ البحر الأسود، وبين الخنجر الإسطنبولي وجزر البحر المتوسط ومئات الكيلومترات من الحدود الإسلامية البرية، وبين مآذن مساجدها وأصوات موسيقاها وأجنحة نوارسها وكأس الشاي في صباحاتها وأحاديث كبار السن على أرصفتها من جهة، ومن جهة أخرى سباقات السياسة والعسكرة وذكريات الانقلابات العسكرية التي خلفت عشرات الآلاف من القتلى على مدى عقود وحروب خفية داخلية وخارجية، ومتربصون بها من كل جانب يعلقون على ثوبها مناشل تثنيها عن الحركة وتبقيها ضمن العالم الثالث.

ولو أنك بحثت خلف كل شجرة أو تحت كل صخرة فيها لوجدت نقطة دم سلجوقية أو تركمانية أو عربية أو إسلامية ما زالت تُهلل وتَحمد وتُكبر، وبمعنى أدق أن هذه الأرض اسْتوطِنت بدماء أجدادها وأسلافها الذين عرفوا قيمة الأرض بتضحياتهم وأثخنوا في عروقها حتى صارت جزءا من عروقهم واختلط لون عروق الأرض الحمراء بعروق الدم الأحمر فأنتج علما أحمرا عماده هلال إسلاميّ يتوسطه نجمة تركية.

وأدركوا أن الاستمرار في هذه الأرض ينبغي أن يعتمد على قيمة أخرى غير القومية، فهم كانوا شاهدين على سقوط الأندلس وحاضرين عندما تُذكر حروب الإنكليز والفرنسيين ومجازر الصين والأمريكيتين.

حارب السلاجقةُ المغولَ وتولوا مهمة حماية الدولة العباسية حين كانوا جزءا منها، وواجه ألب أرسلان وأحفاده تمدد الصليبيين في الأناضول في حين أن بعض الأمراء العرب قد تحالفوا مع الأعداء وأعطوهم الأمان وأمنوا لهم طريقهم للقدس، ولم يذهبوا بعيداً بحلم الدولة والانشقاق حين كانت القبائل التركمانية تابعة للدولة السلجوقية واعتبروا أنها خروجاً عن الصف، وحين أسّسوا دولتهم تأسّست في أرض شبعت من دمائهم وارتوت من بطولاتهم، فأخرجت لهم الغازي أرطغرل وسلالته التي حكمت مئات السنين فيها، رسخوا دعائم وأركان الدولة سياسياً وعسكرياً وإدارياً ودينياً، فوصل القانوني سليمان المجرَ وياووز سليم وصل الفرسَ والحجازَ وبلاد الشامِ، وسبقهم فيها المبشَّر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنيطينية من بعد سلفهم عثمان الذي فتح لهم الطريق لها.

وكان آخرهم عبد الحميد الثاني الذي وقف في وجه الغرب سنيناً وسنين يجادل ويحارب ولم يتخل عن شبر واحد من الأرض الإسلامية، فحاربه فيها من الداخل أكثر من الخارج.

لكن وبحكم سنَّة كل الدول الامبراطوريات كان إعلان نهاية السلطنة العثمانية قبل نحو مئة عام من الآن وبدأت حقبة جديدة لم تكن بالسهلة على تركيا ولا على العالم الإسلامي، فعاودوا وسقوا بلادهم بدماء شتى في جناق قلعة وكوت العمارة والمدينة المنورة وصدوا ضربات العدو الداخلي والخارجي حتى استقروا في هذه الجغرافيا.

تداولت على حكم تركيا الحالية منذ نشأتها حكومات كان لها رأي آخر في حكم الدولة الحديثة، وربما أهملوا جانبا مهماً وهو أن لتركيا امتداداً تاريخياً ودينياً واجتماعياً لا ينحصر بين جبال الأناضول فقط أو على شواطئ البحر الأسود، إنما لها عيون في الشام واليمن والحجاز والعراق والبلقان وغيرها، بقيت وحيدة بعد ابتعاد تركيا عنها، ليس هذا فحسب إنما بعد الصحوة من سكر الحروب المتتالية في تركيا بدأت تستيقظ فيها مشاعر الحنين إلى الدين والتاريخ والجغرافيا والأصول الحقيقية فقوبلت بانقلابات دموية من قبل العسكر وكأنها صوتُ تسلَّط عليها كلما حاولت أن تتغنَّى في الماضي.

إلى أن وصل لحكم تركيا مجموعة ممن يرون عظمة تاريخ هذه البلاد مقارنة بوضعها قبل سنوات والذي استشرى فيه الفساد والظلم وانعدمت الحريات وتحولت لآلة عسكرية قمعية.

أتت هذه المجموعة ووضعت نصب عينيها إعادة تركيا لوضعها الطبيعي، لا أقول جغرافياً إنَّما إرثاً وحضارةً وفنوناً وعلوماً جميعها مطويّة في صفحات اللغة العثمانية القديمة، فتسابقت تركيا مع الزمن وحاربت الفساد وأعادت للمواطن عزته وكرامته ورفعت مقامه بين أقرانه في الغرب والشرق، فوصِلت المياهُ بالجسور وشقت الجبالَ بالأنفاقِ وعجّت السماء بحركة الطيران وأصبح البناء يسابقُ السحابَ عمراناً.

الشعب التركي وقف بوجه آخر الانقلابات وطوى صفحتها وقف بوجه الاحتلال الإسرائيلي في حربه ضد الفلسطينيين فتح أبوابه للاجئين السوريين بعدما ظلمهم حاكمهم

 

لكنّ هناك عيون ترمق هذا بهجس الماضي وخوف المستقبل، فمن الواضح أن هؤلاء يدركون ما يفعلون، وباتت هذه العيون تخافُ من أن قوةً ما ستظهر في الشرق قريباً وتهدّد عرشَ الامبراطوريات العادية والظالمة، ولأن خوفهم في مكانه بدأت مكيدات الغرب الخبيثة في وجه تركيا، فتارة بتشويه سمعتها بمجازر الأرمن الملفقة وغيرها، وتارة باتهامها بقمع الحريات، وتارة أخرى بتسليط كلابها الناطقين باللغة العربية والتركية والإنكليزية وبكل اللغات، وتعقد المحاضرات الندوات والجلسات وتتغى مجالسهم بالإفتراء على تركيا شعبا وحكومة.

هذا الشعب الحر الذي وقف في وجه آخر الانقلابات وطوى صفحتها، وهو الذي وقف في وجه الاحتلال الإسرائيلي في حربه ضد الفلسطينيين وهو الذي فتح أبوابه للاجئين السوريين بعد ما ظلمهم حاكمهم، هذا الشعب الذي انتخب حكومة لم تتغير على مدى أكثر من خمسة عشر سنة رفعت شأن التركي في العالم أجمع وأصبح مثالا يحتذى به في كل الدول التي تتطلع للخلاص من استبدادية الحكومات القائمة… حكومات فاشستية شمولية كان همها الحفاظ على عرش السلطة حتى لو كلف الأمر قتل وتشريد وتهجير الشعوب، فاصطدمت إرادة الشعوب مع حكوماتها وبدأت ثورات الربيع العربي في دول عربية ساعية للحرية والكرامة والعيش بأمان وسلام.

وجدت تركيا نفسها في موقع المسؤولية الإنسانية والأخلاقية والدينية والتاريخية فدعمت حركات الشعوب المتحررة وفتحت لهم أبوابها ووفرت لهم الأمان، فأصبحت ترى العربي والتركي في خندق واحد بقضاياه وهمومه، وأصبحتَ ترى العربي يدافعُ عن تركيا أكثرَ من الأتراك أنفسهم ربما، لأنه ذاق طعماً اسمه الحرية لم يذقه لا هو ولا أجداده في بلادهم، فأصبح من الضرورة بمكان الدفاع عن ديمقراطيات حالية حتى نحظى بديمقراطيات قادمة في بلادنا.

أزعج تصرف تركيا ثعالبَ الشرق والغرب وخصوصاً أنَّ تركيّا تبنى المدارس والمساجد وتقدم المساعدات في إفريقيا وآسيا وميانمار وفلسطين وسوريا وغيرها، فتحولت بوصلة العداء لتركيا، وبدأت ألسنة الكلاب تلهث خلفها تحاول تدميرها والانقلاب عليها تارة والإفتراء عليها ومحاربتها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا تارة أخرى.

كل هذا لأن المثال التركي يقض مضاجعهم خوفاً من أن يصل إلى أعمدة أسرتهم، لأنهم بنوا أسرة على اعتماد غربي فوجدوا أنفسهم هم والغرب في خندق واحد، فيصوِّت العضو العربي في المحافل الدولية لصالح قرار ضد سوريا وفلسطين، وتذهب أموال الحكام في هذه الدولة العربية أو تلك إلى جيوب أسيادهم من أجل نيل رضاهم.

كل هذا وغيره يحتّم على المثقفين العرب الوقوف موقف العادل تجاه تركيا وأن ينأوا بأنفسهم عن تبعية أنظمة لم يختاروها هم وإنما أُجبروا عليها، فتركيا بالنسبة للكثيرين هي آخر أمل، وعلى هؤلاء المثقفين أمانة الوقوف العادل في حرب تقرير المصير، فالوقت ليس وقت المهاترات العبثية والقوميات المصطنعة، إنما نحن في واقع يحتم علينا واجبا دينيا وأخلاقيا وإنسانيا وواجب شرف الأمة.

زر الذهاب إلى الأعلى