“ليس في كلّ مرةٍ تسلمُ الجرّة”… هذا المثل الشعبي لم يستفد منه النظام الأسدي في هجومه الأخير على دوما في الغوطة الشرقية، فلقد اعتقد هذا النظام وركن إلى أن ضرباته الكيميائية ضد مناطق المعارضة السورية ستمرُّ بدون عقاب كما جرى في هجماته السابقة في الغوطتين وخان شيخون وغيرهما.
النظام الأسدي ينتهك بكلّ إرادة وتصميم القانون الدولي الذي ينص على منع انتشار واستخدام الأسلحة الكيميائية، متلطياً خلف الحماية الروسية له والتي تمنع اتخاذ أيّ قرار حقيقي في مجلس الأمن للتحقيق بهذه الهجمات ومحاسبة مرتكبيها.
ولكن يبدو أنّ الروس ضالعون إلى جانب النظام في تدبير وتنفيذ الهجوم الأخير على دوما، ومن هنا كان إصرارهم على رفض أيّ مشروع قرارٍ دولي يتعلق بتحقيق مستقل حول هذا الهجوم الذي راح ضحيته ما لا يقل عن 100 شهيد مدني جلّهم من الأطفال والنساء.
كان الروس يريدون وبأيّ ثمن الإمساك بورقة الغوطة الشرقية والمناطق المحيطة بدمشق لتثبيت وضع العاصمة لمصلحتهم في سياق أيّ حلٍ سياسي منتظر.
هذه الرؤية الخاصة قادتهم إلى تطبيق نظريتهم المرعبة “الصدمة الكبرى” التي تعني زرع الرعب الشديد في قلوب من يريدون منه الاستسلام عبر استخدام أفتك أنواع الأسلحة وأشدّها تدميراً بما فيها الأسلحة المحرّمة دولياً.
لكن الروس لم يحسبوا بدقة ردّ الفعل الغربي على هذا الهجوم، ولم يربطوه بحسابات صراعات أخرى مع الغرب سواءً باعتدائهم على جاسوسهم السابق “سيرجي سكريبال” الذي كان يعيش في ظلّ الحماية البريطانية بعد إطلاق سراحه من سجون روسيا عام 2010 إثر عملية تبادل لجواسيس، أو باستمرارهم في عرقلة حلّ المسألة الأوكرانية أو غير ذلك من القضايا التي يدور حولها خلاف عميق مع نظام بوتين.
الروس في هذه الحالة يلعبون عند حافة الهاوية التي تفصل بين احتمال حربٍ مع الغرب وبين نجاحهم في كسب نقاط لهم تساعدهم لاحقاً على استعادة دورهم الدولي الذي خسروه مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ومع قناعتهم العميقة ومعرفتهم أنّ موازين القوى العسكرية والسياسية والاقتصادية بينهم وبين التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لا يعمل لمصلحتهم البتة، لذلك فقد حاولوا تمرير أكثر من مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يخدم توجههم، لكن الغرب كان يدرك حدود المناورة الروسية وقدراتها ولهذا أفشل وأحبط محاولاتهم بالتملص الذكي من التحقيق الجدي بمسألة استخدام السلاح الكيميائية في الهجوم على دوما والذي يُثبتُ تورط الروس فيه على ما يبدو.
إنّ السياسة الروسية القائمة على اختطاف قوانين الشرعية الدولية ومنع تنفيذها يكشف عن ذهنية سياسية مغامرة يقودها بوتين في الكرملين تقول إنه “ليس غير القوة قانون لفرض الأمر الواقع”.
يريد بوتين من ذلك إخافة الغرب من الحرب لذلك يضع كل خطواته السياسية قرب حافية الهاوية، لكنّ حسابات بوتين هذه المرة لن تكون لمصلحة سياساته، فالغرب وكالمعتاد يلتمّ على بعضه البعض سياسياً وعسكرياً وتقف خلف آلته الحربية اقتصاديات كبرى، فهل يغامر بوتين أكثر من ذلك ويقبل بمواجهة العملية العسكرية الغربية ضد النظام الأسدي؟
إذا فعل ذلك وواجه الطائرات الغربية والصواريخ المجنحة فهذا يعني اتساع رقعة حربٍ لن يستطيع أحد التكهن أين حدود نهايتها، حرب لا يستطيع النظام الروسي دفع تكاليفها، إلى جانب أنها تخلق له إضافة إلى هزيمته المتوقعة، تصدعات داخلية مع خصومه السياسيين في المعارضة الداخلية التي ستشهر ضده (بوتين) تهم الاستهتار بحياة الروس في حروب الآخرين وبالتسبب في تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعاشية الداخلية لعموم الروس.
بوتين ونظامه معنيان بقبول انعطاف سياسي ينبغي أن يجري على الساحة السورية وهو القبول بتنفيذ القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن عام 2015 والذي ينص على تشكيل هيئة حكم انتقالية تامة الصلاحيات التنفيذية بدون رأس النظام الأسدي وبطانته.
بوتين معني بقبول خروج إيران وميليشياتها من سوريا والتسليم بأنّ الورقة السورية هي ورقة خاضعة لميزان قوى دولي لا يعمل لمصلحته.
إن الرفض الروسي لهذا السياق يعني مزيداً من الانزلاق نحو الهاوية التي أراد بوتين اللعب عند حافتها.