حدثني أحد الأصدقاء، وهو طبيب استشاري سوري يحمل الجنسية الألمانية، انتقل منذ عام تقريباً مع طفليه وزوجته من مكان إقامتهم في ألمانيا إلى إسطنبول، لكنه بقي مرتبطاً بعمله كطبيب في المشافي الألمانية ضمن نظام المناوبات، ليقضي وقته مناصفة بين عمله بألمانيا وإقامته بإسطنبول، فقال: “الشعوب الأوروبية عموماً، والشعب الألماني على وجه الخصوص، يتفاعل بشدة مع إعلام دولته، كما أن غالبية الألمان عندما يتوجهون صباحاً إلى أعمالهم بسياراتهم الخاصة، تلاحظ أن أول إجراء روتيني يومي يقومون به هو الاستماع إلى محطات الراديو المحلية، ولن أبالغ إن قلت لك بأن الخبر الرئيسي الأول، ويسبق أخبار الحكومة الألمانية، غالباً ما يتناول الوضع في تركيا، بصورة سلبية مبالغ بها، لدرجة أن بعض المحطات ليس لديها أية مشكلة في نقل خبر حادث حافلة نقل، أو حريق بناء ما في إسطنبول أو أنقرة، وربطه بصورة أو بأخرى بالوضع السياسي القائم في ظل حكومة العدالة والتنمية!”.
وأضاف الصديق الطبيب، مبتسماً: “عندما بدأت بتصفية أمور الأسرة في مدينتي الألمانية تحضيراً للانتقال إلى إسطنبول، كسحب أوراق ولديّ من المدرسة وبيع المنزل والأغراض وتسديد الفواتير والضرائب المترتبة.. إلخ، كان الموظفون يسألونني بشكل طبيعي عن دوافع تلك الإجراءات، وسرعان ما يُصابون بالذهول لمجرد سماعهم إجابتي بأني منتقل للإقامة في تركيا، ووصل الأمر بأحد زملائي من الأطباء الألمان ليعرب عن قلقه وخوفه الشديدين بالقول: هل أنت مجنون؟ تركيا مليئة بالإرهابيين والعمليات الإرهابية وتعاني من الظلم وقمع للحريات، ومن الملاحقات الأمنية، والاقتصاد المتدهور، ورئيسها المتسلط”.
وأردف صديقي “عبثاً كنت أحاول مع زميلي تصحيح تلك الصورة المشوهة عن تركيا ونقل الواقع المناقض لتصوراته المكتسبة بفعل وسائل الإعلام، على الرغم من معرفته بزياراتي المتكررة لتركيا بين الفينة والأخرى منذ لجوء أقاربي إليها عام 2012 هرباً من النظام السوري، واطّلاعي المباشر من خلالها على واقع الحياة الاجتماعية والسياسية في تركيا”.
تذكّرت هذا الحديث وأنا أتابع اليوم ما يجري من تجييش إعلامي مكتمل الأركان، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ودينياً، ولم يسلم منه حتى القطاع السياحي.
وإذا ما بررنا التخوف الأوروبي، والعداء المستفحل من بعض الأنظمة الأوروبية وتجييش إعلامها ضد الدولة التركية الصاعدة في ظل حكومة العدالة والتنمية، بأسباب تتعلق، مثلاً، بالعامل الديني الإسلامي المتاخم لحدود القارة العجوز، أو النهضة الاقتصادية المتسارعة التي قفزت بتركيا أكثر من تسعين مرتبة لتحتل المركز الاقتصادي السادس عشر على مستوى العالم منذ استلام العدالة والتنمية السلطة عام 2003، أو سعيها لتتبوأ مركز ضمن السبعة الكبار في المستقبل القريب، ما يهدد تراجع العديد من دول الاقتصاد الأوروبي، أو النهضة الصناعية والعلمية والصحية والخدمية التي صارت حديث شعوب العالم، أو الصناعات الدفاعية المتطورة التي نافست الأوروبية، أو الاستثمار السياحي، أو الاستثمارات الأجنبية المختلفة، أو المشاريع العملاقة كمطار إسطنبول الثالث وقناتها، أو نشاطها التعليمي العالي بعد أن تجاوز عدد الجامعات فيها الـ 200 لتغدو الأكثر بين جامعات الدول الأوروبية.
وعلى افتراض أن كل تلك الأسباب مجتمعة تستوجب التخوّف والعداء الأوروبي جدلاً، ونضيف إليها سبباً آخرا وهو عامل العقدة التاريخية المتأصلة ضد الأتراك منذ أكثر من 550 عاماً مضت.. إلا أن ما يثير الاستغراب حقيقةً، والضحك أحياناً، هو مشاركة بعض الحكومات العربية بالحرب الاقتصادية على الدولة التركية وحكومتها مؤخراً في ظل الاستعدادات للانتخابات المبكرة، على الرغم من افتقارها لأدنى مبررات الاصطدام مع الحكومة التركية الحالية، ولا تمتلك أصلاً ما يستحق الخوف عليه من الأتراك أو غيرهم حاضراً ومستقبلاً.
تلك الحرب التي تمخّض عنها الهبوط الحاد في سعر الليرة التركية، وتحريض شعوبها على سحب استثماراتهم من الأراضي التركية، وتوجيه الإعلام لضرب السياحة فيها.
إذن، فقد وجهت تلك الحكومات العربية حرابها صوب لقمة وعَرق الشعب التركي بالدرجة الأولى، بعد خسارتها وسقوطها سياسياً واجتماعياً في معركة النيل من مكانة الحكومة التركية داخل الشارع التركي، لا سيما بعد فشل انقلاب 15 تموز 2016 وما نتج عنه من التفاف شعبي حول الحكومة الشرعية المنتخبة ضد عودة تسلّط العسكر.
ومما لا شك فيه هو ضحالة قادة تلك الحرب في قراءة التاريخ التركي خلال الـ 16 عاماً الأخيرة، وما صنعته تلك الأعوام من إنجازات صناعية وزراعية وتجارية وخدمية حصّنت المواطن التركي ضد العوارض التي من شأنها أن تمسّ حاجاته اليومية الضرورية ووسائل رفاهيته، حتى وإن وصل سعر الدولار إلى خمسة أضعاف أخرى مقابل الليرة.
كان أمام تلك الحكومات فرصة ذهبية لن تتكرر، لكسب ثقة شعوبها على الأقل، لو أنها اختارت أن تمدّ يدها لليد التركية بدل المغامرة الخاسرة في ضربها، فما يجمعها مع الأتراك، في ظل العدالة والتنمية اليوم، يفوق كثيراً ما تخبئه عجلة المستقبل بعد 24 حزيران حين يقول الشعب التركي كلمته الفصل، الشعب الذي ذاق حلاوة الاستقرار والازدهار والديموقراطية بعد عهود الانقلابات والعسكر والجمود، الشعب الذي لن يرضى بالعودة إلى ما قبل 2002، ومن يعش يرَ.