مدونات TRهام

الهيمنة الأمريكية والبدائل الممكنة

الحرب الأمريكية غير المعلنة على تركيا، والتي تأخذ أشكال ضغوطات سياسية كبرى، وحربها على الليرة التركية، اضافة إلى مطالب واشتراطات سياسية واقتصادية كثيرة تريد الولايات المتحدة الأمريكية فرضها على الدولة التركية، بغية إبقاء هذه الدولة ضمن نطاق الهيمنة الأمريكية، هي حرب ترتكز أساساً على خوف أمريكي حقيقي من قطار التنمية الاقتصادية التركي الذي يتجه إلى مواقع متقدمة، ولهذا تحاول الولايات المتحدة إبطاء ثم إيقاف حركة قطار التنمية التركي. ولكن هل تنجح الولايات المتحدة في هذه الحرب غير المعلنة على تركيا والتي ستقوض علاقاتها مع أهم حلفائها في منطقة الشرق الأوسط؟. سؤال يتجاوز الفهم الشائع والسطحي لدى رهط كبير من العاملين في الشأن السياسي، والذي يعتقد أن الغرب الرأسمالي هو كتلة واحدة تقودها الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

هذا الاعتقاد يتجاهل التناقضات الثانوية بين حلقات الرأسمالية، والتي قد يقفز الصراع بينها في لحظة ما إلى درجة الصراع الرئيسي، كما حدث في الصراع بين هذه الحلقات في الحربين العالميتين الأولى والثانية.

إن هذه الحرب الأمريكية غير المعلنة على تركيا لا يقف العالم الرأسمالي الدولي فيها من تركيا نفس الموقف الأمريكي، وهذا يكشف تناقضاتٍ. في بنية النظام الرأسمالي العالمي بين حلقاته ذات التطور المختلف. فأوربا تعاني الآن من فرض قيود على صادراتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهذا يحدث الآن مع تركيا في تصديرها للصلب والألمنيوم. وهو موقف قد يقارب بينهما.
الأمريكيون ينتهكون اتفاقية التجارة العالمية الحرّة التي وقعوا عليها من قبل، لأن هذه الاتفاقية لا تضمن لهم بقاء هيمنتهم على الاقتصاد العالمي. وهم لا يريدون توقيع اتفاقية المناخ التي تمنع تفاقم مشكلة طبقة الأوزون في الغلاف الجوي وأثر ذلك على التبدلات المناخية الحاصلة على الكرة الأرضية.

الغرب الأوربي يجد الآن خطراً أكبر عليه من خلال محاولة الولايات المتحدة فرض سياساتها الاقتصادية عليه، وهذا يكشف عن تناقضات عميقة في هذه السياسات بين أجنحة النظام الرأسمالي العالمي، التي تُحسّ أن سياسة هيمنة القطب الأمريكي الأوحد باتت تُهدّد اقتصاداتهم ونموهم وتوفر فائدة للأمريكيين وحدهم.

هذه التناقضات قد تنتقل بالعلاقات الأمريكية الأوربية من مستوى تناقض ثانوي إلى مستوى تناقض رئيسي. وهذا ما يجب أن تحاول الدولة التركية وغيرها من الدول المتضررة من التدخلات الأمريكية في شؤون تنميتها وسياساتها أن تلتقطه وتعمل عليه لإضعاف الدور الأمريكي في التدخل.

الأوربيون لا يقفون ذات الموقف الأمريكي العدائي من قطار التنمية الاقتصادية التركية، فهم يعرفون تماماً أن وقوفهم إلى جانب الموقف الأمريكي من تركيا لن يكون في مصلحة أوربا، بل سيكون فقط في مصلحة الولايات المتحدة وهيمنتها.

تركيا يجب أن تستفيد من تناقضات الولايات المتحدة الاقتصادية والسياسية مع أوربا والصين و روسيا وإيران، وتوظفها ضد الهيمنة الأمريكية وهذا يتطلب جهداً سياسياً واقتصادياً، يقوم على تشكيل تكتل دولي جديد خارج دائرة الدولار الأمريكي الذي تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على بقاء هيمنته كعملة تبادل رئيسية عالمياً. هذه الخطوة تساعد على بدء انفكاك تدريجي عن أثر العقوبات التي تفرضها الإدارة الأمريكية على كل بلد أو مجموعة اقتصادية دولية، تحسّ أمريكا بخطر نموه وتنميته على هيمنة قطبها الأوحد. الانفكاك الاقتصادي عن مركز الرأسمال الأمريكي يحتاج إلى بدائل حقيقية في التعاملات الاقتصادية الدولية، وهذا يحتاج إلى توفير آليات تعامل اقتصادي خارج سلة الدولار الأمريكي، وخارج نفوذ بيوتات المال الكبرى الأمريكية العابرة دولياً.

قد يعتقد البعض أن ذلك مجرد أمنية، ولكن هذا الاعتقاد ليس اعتقاداً علمياً، لأن دورة حياة أي مركز اقتصادي سياسي عالمي لها مراحل متتابعة تمرّ بها تبدأ بزمن بداية وزمن صعود ثم هيمنة ثم تفكك.

الولايات المتحدة تعيش حالة تفكك الهيمنة، ويظهر ذلك من خلال مديونية حكومتها التي تبلغ ما يقارب حجم ناتجها المحلي الذي تجاوز بقليل 19 تريليون دولار. هذا العجز الاقتصادي المخيف تتمّ السيطرة عليه من خلال وجود الصناديق السيادية الدولية في بيوتات المال الأمريكية، فإذا تمّ إيجاد صيغة تعاون بين الدول الفاعلة اقتصاديا” كالصين والمجموعة الأوربية ,تركيا وروسيا خارج الولايات المتحدة فسيجد الأمريكيون أن اقتصادهم سينزلق بعيداً عن الهيمنة التي يصارعون من أجل استمرارها.

فهل سيحدث اتفاق دولي كهذا خارج الهيمنة الأمريكية؟. نعتقد أن ذلك ممكن من خلال تغليب نقاط الاتفاق الكبرى بين هذه الدول على حسابات الخلافات المؤقتة.

العالم ببساطة بحاجة إلى قيام نظام دولي متعدد الأقطاب سياسياً واقتصادياً، فهل تسعى الدولة التركية إلى إيجاد هذه التقاطعات ولو كانت تقاطعات بأصغر قيمة ممكنة؟

يبدو أن الدولة التركية تتجه إلى هذا المسار بخطى حذرة وستجد قريباً من يصفق لسياساتها الرافضة للرضوخ للهيمنة الأمريكية التي يقترب زمن تفككها بأسرع مما يتخيل البعض.

أسامة محمود آغي

أديب وإعلامي سوري
زر الذهاب إلى الأعلى