مدونات TR

بطولة في مستنقعات المآسي

لقد غَيّب النظامُ السوريُ الظالمُ زوجَها، حيثُ اختطفه من سوقِ الخضارِ بينما كان يشتري الخبز لأهله، عِلمًا أنّه رجل بحالِهِ ولم يُعرف عنّه أيّ عمل مُعارض اتجاه طاغية الشام، ومنذ سبع سنوات لا يعلم أهله شيئًا عنه إن كان حيًا أو ميتًا، وأضحتْ حالتها المادّية تسوء أكثر فأكثر، وخاصّة بعد أن تَنكّر بيتُ حماها لتربية الأولاد وكفالتهم، فرموهم في وجهها وتخلّوا عن رعايتهم، فبقيتْ عند أهلها على الرغم من سوء حالهم أيضًا، ولم يبق لها معين إلا الله.

فاطمة امرأة سورية في ريعان شبابها من ريف دمشق، قَضتْ تسع سنوات في الفقر والمشقّة والنزوح، وحالها الآن مُبهم تمامًا، فهي ليست متزوجة ولا أرملة، ولا مُعلّقة ولا مُطلّقة، فلا استقرار لوضعها العائلي، ولا تستطيعُ الوصول إلى قرار يأخذ بيدها إلى جادّة الصواب وَبَرّ الأمان، هل تطلب الطلاق من المحكمة، أم تنذر حياتها لتربية أولادها وتعليمهم؟ وكيف تقوم على رعايتهم وتأمين رزقهم بآن واحد؟ وإذا طلقتها المحكمة وتزوجت فما مصير أولادها؟ ومن سيقبل بها مع أولادها؟

من الصعوبة بمكان الإجابة على هذه الأسئلة، والقرار في كل وجهاته مؤلم ومبتور، والخيارات أمامها أحلاها مُرّ، فلن تصل إلى أي حلّ ترضاه ويرضى به مَن حولها ومجتمعها.

وحالة فاطمة ومثيلاتها من النساء اللواتي استشهد أو اعتقل أزواجهنّ، تجعل الكثير من أصحاب السطوة والنفوذ من أفراد المخابرات والأمن يطمع فيهنّ، فهم عصابات من المافيا بكل معنى الكلمة، يصطادون في الماء العكر، فيبحثون عن تلك الحالات البائسة المثخنة بالجراح والضعيفة، لتكون لُقمة سائغة يلتهمونها، فتلك العصابة كالضباع يستغلون غياب الأُسُود أصحاب الغَيرة والشهامة والرجولة للفتك بالفريسة، ويختلف أسلوب الافتراس على حسب المقصد فمنهم:

من يتقدم طالبًا الزواج منهنّ لتكون الزوجة الثانية أو الثالثة، فزوجته الأولى إما تقاتل مع ميليشيات بشار، أو بعيدة عنه تسكن في الساحل السوري في قريته النصيرية، فيجد تلك النساء المكلومات مناسبات لما يريد. ومنهم من يطلب منهنّ الغواية والحرام لتفريغ شهوته الحيوانية، وخاصة في تلك الحواجز المقيتة التي سَوّدت حياة أهلنا في الشام. ومنهم من يسعى (والعياذ بالله) في أخذهنّ لتشغيلهنّ في الزنا والدعارة، ليكسب من ذلك العمل الخسيس الدنيء.

خرجتْ البطلة فاطمة “والحمد لله” مُنتصرة عفيفة من ذلك الامتحان الصعب، بعد أن رفضتْ الزواج من شَبّيح أرادها مُتعة رَخيصة له، وكذلك مُعظم نساء وبنات سورية الكريمات الطاهرات، وقفنّ في وجه الطامعين بهنّ وقفة بطولية مُشرّفة لا مثيل لها، فمهمّة اللبّوة حماية العرين حتى يعود ضرغامها، فلم يستسلمنّ لواقعهنّ المرير، ولا لتلك الفرص الدنيئة التي تخلع عنهنّ لباس الوقار والشرف، فكانتْ الفتاة السورية مِثالًا فريدًا يُحتذى به في العفّة والكرامة والرزان.

خلصتْ فاطمة إلى أن تعمل لإعانة أهلها وإعالة أولادها، وأخذتْ على عاتقها مسؤولية البحث عن عمل شريف تترمق منه، وصارتْ تتنقل من عمل إلى آخر وفي أماكن عِدة، كالنحلة ساعية في جني رحيقها، ولكن (مع الأسف) ليس من زهرة إلى أخرى، بل من شوكة إلى شوكة، فلكل عمل حكاية مُرّة، فعملتْ في محلّ لبيع الألبسة، ثمّ في مشغل للخياطة، وبعدها خادمة في البيوت، ثمّ في دكان لبيع الأحذية، وكلّ مَن عملتْ لديهم إمّا يأكلون تعبها وحقّها، أو يُنقصون من أُجرتها، أو يستغلون فقرها وحاجتها فيستعبدونها، إلى أن وجدتْ عملًا في محلّ للحلويات في حيّ دمشقي، الدوام فيه 12 ساعة، فصارتْ تترك أولادها عند أهلها كلّ يوم من الصباح حتى المساء، ونظرًا لأزمة المواصلات فهي تخرج قبل دوامها بساعة وتعود في التاسعة، يعني تغيب عن بيتها وأولادها أربعة عشرة ساعة يوميًا، وفي المواسم كأيام العيد ورمضان تتأخّر حتى الثانية بعد منتصف الليل، فرَبّ عملِها رجل جشع يريد من عُمّاله المزيد من الإنتاج، دون النظر لأحوالهم الصعبة.

وأوضاع الشام اليوم ليستْ خافية على أحد، فهي غارقة بأمراض اجتماعية سلوكيّة وأخلاقيّة مُزرية، تفتك بشبابها وأهلها، فتدخين الأولاد في المرحلة الابتدائية هو أصغر تلك الأمراض (مع أنّه كارثة كبيرة) بالنسبة لغيرها، وانتشار شرب الخمر بين الشباب في الشوارع والأزقة والجامعات وفي الحدائق وأمام النّاس، ودون أدنى خوف أو خجل، والدعارة تفشّتْ بشكل كبير في البيوت الخاصّة والحدائق العامة، بضوء أخضر من الشبيّحة واللجان الشعبية وعناصر المخابرات، وحالات الخطف كل يوم تتزايد وفي وضح النهار طلبًا للفديّة أو لتجارة الأعضاء، والمخدرات تُباع في الأكشاك وتوزع على الطلاب في المدارس والجامعات، بدعم من حزب الله اللبناني، والنّاس لا يأمنون التجول نهارًا في دمشق وضواحيها، فكيف تأمن امرأة العودة إلى بيتها بعد منتصف الليل؟!

في البداية قالتْ فاطمة: أنّ مُعلّمها رجل طيب وصاحب دين، فهي كما يقول أهل الشام: (ترشُ على الموتِ سكّرًا) مواسية نفسها، فلا أدري ماذا رأتْ من تقواه؟ وأيّ ورع يأتي من رجل نُصيري، يستغل حاجة عُماله الضعفاء لاسيما النساء؟! بالإضافة إلى أنّه عميل قديم للنظام من بداية الثورة، وقد هدده الثوار كثيرًا عندما كانت الثورة السورية في مرحلتها الأولى، ومن قسوة وجور هذا الرجل الخبيث أنّه حَرَمَ عُمالَه من الأجرة في العيد أو أجّلها لهم حسب روايته، على الرغم من أنّ العمّال بأمسّ الحاجة للمال في تلك الأيام، فاستغباهم وخدّرهم بِعِيدّية بَخسة، عبارة عن بعض الحلويات الكاسدة في متجره وزّعها عليهم. إلى أن تأكدتْ من حقيقة هذا الرجل عديم الرحمة، فبعد شهر من عملها قبل وبعد العيد، قام بإيقافها عن العمل، لأنّها لا تستطيع حمل بعض الكراتين الثقيلة نظرًا لوضعها الصحي الذي لا يسمح لها بالحمل الثقيل، وقام بإعطائها ربع أجرتها المتفق عليها فقط، وعادتْ تلك المسكينة إلى نقطة الصفر في البحث عن عمل جديد تطعم منه أولادها وتربيهم.

لا عجب.. فكما أنّ ثورتنا المباركة أظهرتْ الوجوه الحقيقية لرجال السياسة والشيوخ وأفرزتهم، كذلك أظهرتْ التجّار والصناعيين وأرباب الأموال ورجال الأعمال، فهناك من التجّار من آثر الحقّ على الباطل، فسحب أمواله من بين يدي النظام وأسواقه، وانتقل إلى بلد آخر فطوّر أعماله هناك وثمّرها، ودعم الثوّار والمجاهدين بماله، وأعان اللاجئين والضعفاء، وهناك من بقي تحت ظل النظام المجرم داعمًا له، فمن جِهة يشاركه في صفقاته كأن يحمي ماله وتجارته بسطوته وسلطته، ومن جهة يفتح أمامه أبوابًا للتجارة دون رقابة أو ضبط (حتى ولو كانت ممنوعة)، ومن جهة أخرى يستغل فاقة أهل البلد الضعفاء والفقراء، فيسحب دمهم مقابل القليل مما يَسدُّ رمقهم، وبنفس الوقت يكون عينًا للمخابرات عليهم.

وهكذا تُمضي فاطمة حياتها في استجلاب رزقها، وصبرها على غياب زوجها، رغم كلّ تلك المخاطر التي تقتحمها، والظلم الذي يواجهها، “كما يقول المثل الشامي: لُقمة مُغمّسة بالدم”، لتعولَ أولادها وتكفّ يدها عن السؤال والتذلل، في غياب شبه تام للرحمة والفضيلة والشفقة من قلوب تلك الثلّة العميلة من التجّار، الذين تَنعّموا وأُثروا في سنوات الحرب، فاحتكروا السلع الأساسية حتى تضاعفتْ أسعارها، ثمّ باعوها بأضعاف مُضاعفة، وشغّلوا النّاس عندهم بأجور زهيدة، فسنوات الحرب في سورية عِجاف على الفقراء والضعفاء فقط، أمّا بالنسبة للتجار الفُجّار فهي سنوات خير وغُنم ورخاء. عِلمًا أنّ مُعظم هؤلاء التجّار شُركاء رؤساء فروع الأمن، وبعض المتمشيخين الانتهازيين الذين يعيشون على شقاء النّاس وفاقتهم.

وفي كلّ فترة يأتي خبر لفاطمة من قِبل بعض التجّار والشيوخ، الذين يعملون سماسرة للفروع الأمنية: أنّ زوجك مازال حيًا، فإن تريدين المزيد من أخباره أو تحريك قضيته فادفعي مبلغًا من المال، والمبالغ المطلوبة في مثل هذه القضايا تُقدّر بمئات الآلاف، فتقوم تلك المسكينة ببيع ما عندها في بيتها، أو بالاستدانة من هنا وهناك، لتدفع تلك المبالغ، وبعد دفع كل ذلك تضيع قصتها بين ملايين قصص الخداع، وتعدو الأيام مُسرعة، ليأتي مُتمشيخ آخر يعرض عليها المساعدة على أن تدفع له أيضًا، وهكذا فعل هؤلاء المارقون الأخسّاء معها أكثر من مرة، وفي كل مرة يبعثون فيها الأمل الكاذب مقابل المال، وهي في كثير من الأحيان تعرف أنّهم كَذَبَة فتتردد في البداية، ولكن شوقها لزوجها وواجبها في تقديم العون لذلك المعتقل، يدفعاها لتصديقهم، قائلة: لعل هذا الخبر يصدق هذه المرة!!

وتقول فاطمة دائمًا: “لابد أن يأتي الفرج لا شك في ذلك، فنحن في امتحان والمؤمن مُمتحن، والله معنا في ضِيقنا وشدتنا، ونعم .. رغم الكروب والمصاعب فلا يأس عندنا، فهناك أُناس جيدون وطيبون من أهلنا (فإن خليتْ خربتْ)، ولعل ما نحن فيه هو تنقية لنا من آثامنا، وتهيئة لنا لأمر عظيم، فشعبنا يستحقّ كلّ خير، ودائمًا أقرأُ في سورة الشرح قوله تعالى :((فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا))، فلا تحزنوا لأجلنا، فشعبنا صابر وعظيم، وربنا قادر وكريم”.

أمّا قصّة فاطمة فهي واحدة من ملايين القصص المأساوية والبطولية بآن واحد، على مسرح كبير اسمه سوريا، كتب أحداثها رجال ونساء وأطفال، لم يجرؤ اليأس أن يتسلل إلى قلوبهم، فقد أوقدوا من رَحِم العتمة شعلة، تضيء طريق الحياة الكريمة العادلة، مُعتمدين على ربهم عز وجل، ومُحاطين بقيَمهم النبيلة وأخلاقهم السليمة، التي أنتجتْ بطولات حقيقية، لو لم نعايشها لقلنا إنّها من نسج الخيال وأساطير الأولين، ولكنّها واقعيّة نراها ونعيشها ونسمعها، علمتنا هذه القصص الرائعة أنّ الفجر يخرج من جوف الظلمة، وأنّ الفرج يأتي من عمق الكروب، وأنّ البطولة تخرج من مستنقعات المآسي، فكيف لا وأبطال هذه القصص الشعب السوري العظيم، الذي كسر أغلال العبودية، ورفع راية الحريّة عاليًا، ونادى بصوت مجلجل: الموت ولا المذلة؟!

فراس السقال

كاتب وباحث سوري أستاذ جامعي
زر الذهاب إلى الأعلى