مدونات TR

بداية مشرقة في “نبع السلام” ونهاية محرقة في سوتشي

سارع الشعب السوري بغالب أطيافه وتوجهاته إلى دعم وتأييد العمليّة التركيّة السوريّة “نبع السلام” التي رأى فيها مصلحة مُشتركة كبيرة لدى السوريين والأتراك على حدّ سواء، في تخلّيص شعبنا من بعض المتطرفين “كميليشيات قسد” وداعميها الأمريكان، وكذلك يُطهّر الأتراكُ حدودَهم من الفئات الإرهابيّة التي تنشر الفتن والفساد والإرهاب في تركيا، وتسعى إلى تقسيم سوريّة والانفصال عنها، فبتأمين تلك المنطقة يتسنّى عندئذ للسوريين النازحين واللاجئين في تركيا وغيرها العودة إليها، وبنائها من جديد والاستقرار فيها.

جرتْ العمليّة في بداياتها حسب خُطتها الموضوعة، والجميع يُراقب مُندهشاً من نزاهتها وخلوها من مظاهر التدمير والإرهاب والقصف العشوائي، كتلك التي كانت تُمارسها روسيا وذيلها الأسد في كلّ بقاع سوريّة. ثمّ جاء الاتفاق التركي الأمريكي مُتوجِاً لإيجابيّة سير العمليّة، وتنزيهها عن إراقة المزيد من الدماء بانسحاب تلك الميليشيات من المناطق الحدوديّة الواقعة في عمق خمس وثلاثين كيلو متر، إضافة إلى الهدنة 120 ساعة التي بعثتْ الحياة والسلام لدى جميع الفئات بغض النظر عن هويتها وماهيتها، وكفى الله المؤمنين القتال.

وبعد ذلك وصلتْ العمليّة إلى محطة “سوتشي” الروسيّة ومائدة الرئيسين أردوغان وبوتين، ومخاضها الطويل حيث تجاوز اللقاء الأربع ساعات في أخذ وردّ بين الطرفين، إلى أن تجلّتْ مَعالمه عن بنود جعلتْ من الدبّ الروسيّ شريكاً حقيقياً في عمليّة “نبع السلام”، فروسيا ستكون المسيطرة على بعض المناطق الحدوديّة ضمن المنطقة الآمنة بالتعاون مع القوات التركية.

في هذا الوقت أحسّ الشعب السوري أنّه “أكل السفرجل”، بعدما تحوّل المجرم الروسي إلى شريك سلام، واليوم ربيبه بشار يتسلل ويرفع علمه في تلك المناطق، فكيف يجب على شعبنا أن يفهم هذه التحركات؟

إنّ المطّلِع على التاريخ الروسي يجده تاريخاً خالياً من معالم السلام، ولن تكون روسيا من دعاة السلام على الإطلاق، والشعب السوري يعرف ذلك تماماً، فالذي جعل بشار الكيماوي يستمر إلى يومنا هذا في حكمه وإجرامه وسفكه لدماء شعبه هو روسيا، والذي دمّر سورية خلال ستّ سنوات مضتْ من الجو والبر والبحر هو روسيا، والذي جرّب أكثر من 250 نوعاً من الأسلحة منها مُحرمة دولياً هو روسيا، والذي خان اتفاقيات خفض التصعيد مع تركيا ثمّ سيطر على تلك المناطق هو روسيا، والذي يُغذّي الجماعات والتنظيمات الإرهابية ويستقطبها ويحركها كيف يشاء هو روسيا، والذي يحتلّ سورية ويمصّ خيراتها وينهب ثرواتها ويغير تركيبتها هو روسيا، والذي أعطى الضوء الأخضر لإيران ومشروعها الطائفي في سورية هو روسيا، فبعد كلّ تلك الجرائم الروسيّة كيف سيتلقى شعبنا هذا الاتفاق، فهل مطلوب منه أن يُلدغ من جُحر مرتين، وكيف سيأمن مكاناً تسيطر عليه روسيا المجرمة التي هي من قتلته وهجّرته من أرضه؟!

والأمر الآخر هو أنّ سيطرة روسيا على بعض المناطق الحدودية في المنطقة الآمنة يعني سيطرة النظام المجرم عليه أيضاً، وقد رأينا القوات الروسيّة تدخل “كوباني” مع قوات للنظام، فهل الاتفاق التركي مع روسيا يُعدّ اتفاقاً ضمنياً مع النظام السوري؟ وهل هذا يجعلنا نترقب مفاوضات قريبة بين تركيا والنظام المجرم؟

ما نراه حسب المعطيات الظاهرة أنّ “نبع السلام” آتتْ أكلها بما يَخصّ تأمين الحدود التركيّة وتطهيرها من الخطر الإرهابي المتمثل في ميليشيات “قسد” وتنظيم “داعش”، بينما أخفقتْ العمليّة في سعي الشعب السوري وجيشه الوطني فيها الشريك في تحقيق أحد أهداف العمليّة في تحرير بعض المناطق من الإرهاب، فلم ينته شعبنا من إجرام قسد المدعومة من أمريكا، ليقع في شِراك إجرام النظام ذنب روسيا، فأرى أنّ العمليّة آلت الآن إلى شرعنة الاحتلال الروسي بشكل أو بآخر وهيمنته على ما كان مُحرراً، ولاحقاً إذا بقيتْ الأوضاع على ما هي عليه ستقوم روسيا بتسليم تلك المناطق إلى النظام السوري الفاسد. وبذلك لا نستطيع القول حسب الواقع بأنّ “نبع السلام” حققتْ جميع أهدافها، فنتائج “سوتشي” نكسة واضحة لعمليّة “نبع السلام”، فقد غطّتْ إيجابيات العمليّة الأوليّة، فكانت بدايتها مشرقة أمّا نهايتها فقد باتت مُحرقة.

إنّ ما نظنّه في الحكومة التركيّة التي تتمتع بسياستها المتزنة العادلة أنّها لن تسمح لروسيا أن تخدعها وتمكر بها، فقد خبرتْ خياناتها ونقضها للعهود مراراً، فنرجو أن تبقى تركيا كما تقول دائماً أنّها بجانب كلّ مظلوم، وفي صفّ كلّ صاحب حق، وشعبنا السوري الذي وجد في تركيا معاني الأخوّة والمروءة والشهامة، ينتظر منها توضيحاً لما جرى في “سوتشي” فمازالت الرؤية ضبابيّة بعض الشيء، ويأمل منها متابعة ما بدأتْ به من مدّ يد العون والنصرة والدعم وعدم الوقوع في مراوغة بوتين ودجله، مع العلم أنّ شعبنا المظلوم لن يقبل بتمرير ذلك الاتفاق الحالي إن اتضح منه الإجحاف بحق ثورة سورية العظيمة القاضي باحتلال روسيا والنظام السوري لبعض الأراضي المحررة من المنطقة الآمنة، تلك البلاد التي ضحّت بدماء الكثير من شهدائنا الأبرار ليرتفع في سماها علم ثورتنا وتتحقق فيها حريتنا المنشودة. وأعتقد أنّ تركيا لديها دراية كافية في بنود هذا الاتفاق، وتعرف تماماً أنّها من خلال شروطه تجمع بين المتناقضات، في إنشاء منطقة آمنة يلجئ إليها الهاربون من الموت، وبنفس الوقت يكون المجرمون والقتلة الروس أوصياء عليها، يعني: “حاميها حرميها”، فالظاهر أنّ هناك أمور مُبهمة تحتاج للتوضيح، ونظنّ أنّ تركيا ستجد مخرجاً مُناسباً يتوافق عليه جميع مُكونات شعبنا، فتكون المنطقة الآمنة كاملة بيد شعبنا وجيشنا الوطني.

فراس السقال

كاتب وباحث سوري أستاذ جامعي
زر الذهاب إلى الأعلى