
كل عام في شهر نيسان/أبريل تحاول بعض الدول والجهات إثارة مسألة “مجازر الإبادة” المزعومة، متجاهلة الحقائق التاريخية الدامغة التي تثبت زيف تلك الادعاءات وعدم صحتها، وأن ترداها اليوم ما هو إلا استهداف لتركيا الحديث ولتاريخ الدولة العثمانية.
وردا على تلك المزاعم، يجدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، دعوته لمن يدعي تعرض الأرمن لـ”الإبادة” عام 1915، إلى فتح الأرشيف قبل الافتراء على الآخرين، موجها في الوقت ذات رسائل لأولئك المدعين مفادها “إن كنتم واثقين فعلا من ادعاءاتكم فتفضلوا لنفتح معا كتب الأرشيف”.
وتملك تركيا في جعبتها آلاف الوثائق التي تدحض مزاعم ما يسمى ”ارتكاب مجازر جماعية بحق الأرمن”، في حين يؤكد أردوغان أن “قضية الأرمن مجرد ابتزاز لتركيا، وسيرى الأرمن الحقيقة بأنفسهم”.
تعنّت أرميني
تعمل لوبيات الإبادة الجماعية والأوساط السياسية المناهضة لتركيا، على تشويه الحقائق التاريخية وغرس بذور الفتنة والعداء مجددا، متناسين تاريخهم الإجرامي الأسود، عبر السماح بنشر الأكاذيب وحملات الافتراء ومحاولات تزييف الحقائق التاريخية، سعيا وراء المصالح السياسية.
في حين تؤكد تركيا عدم إمكانية إطلاق صفة “الإبادة العرقية” على أحداث 1915، بل تصفها بـ “المأساة” لكلا الطرفين، وتدعو إلى تناول الملف بعيدا عن الصراعات السياسية، وحل القضية عبر منظور “الذاكرة العادلة”، الذي يعني باختصار التخلي عن النظرة الأحادية الجانب إلى التاريخ، وتفهم كل طرف ما عاشه الآخر، والاحترام المتبادل لذاكرة الماضي لدى كل طرف.
كما تقترح تركيا القيام بأبحاث حول أحداث 1915 في أرشيفات الدول الأخرى، إضافة إلى الأرشيفات التركية والأرمنية، وإنشاء لجنة تاريخية مشتركة تضم مؤرخين أتراكا وأرمن، وخبراء دوليين.
حقائق تاريخية تدحض أكذوبة الإبادة
لو عدنا إلى تاريخ تلك المرحلة عام 1915، للوقوف على تفاصيل ما جرى، فإن المتابع للأحداث التي تكشفها تركيا وبكل وضوح يجد عكس ما تدعيه بعض الدول والتنظيمات التي تتهم تركيا بـ”الإبادة” المزعومة.
ففي ذلك الوقت تعاون القوميون الأرمن مع القوات الروسية بغية إنشاء دولة أرمنية مستقلة في منطقة الأناضول، وحاربوا ضد الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى التي انطلقت عام 1914.
وعندما احتل الجيش الروسي شرقي الأناضول، لقي دعما كبيرا من المتطوعين الأرمن العثمانيين، كما انشق بعض الأرمن الذين كانوا يخدمون في صفوف القوات العثمانية، وانضموا إلى الجيش الروسي، بينما حاولت الوحدات العسكرية الأرمنية، تعطيل طرق امدادات الجيش العثماني اللوجستية وإعاقة تقدمه، إضافة إلى ارتكاب العصابات الأرمنية مجازر ضد المدنيين في المناطق التي احتلتها، ومارست شتى أنواع الظلم بحق الأهالي.
وفي ظل تواصل الاعتداءات الأرمنية رغم التدابير المتخذة، قررت السلطات العثمانية، في 27 أيار/مايو 1915، تهجير الأرمن القاطنين في مناطق الحرب، والمتواطئين مع جيش الاحتلال الروسي، ونقلهم إلى مناطق أخرى داخل أراضي الدولة العثمانية.
ومع أن الحكومة العثمانية خططت لتوفير الاحتياجات الإنسانية للمهجّرين، إلا أن عددًا كبيرًا من الأرمن فقد حياته خلال رحلة التهجير بسبب ظروف الحرب، والقتال الداخلي، والمجموعات المحلية الساعية للانتقام، وقطاع الطرق، والجوع، والأوبئة.
توظيف سياسي
يقول الكاتب السياسي المصري مصطفى كامل إنه “عندما جرت محاكمة ثوار الأرمن في عام 1893 أمام محكمة أنقرة، ظهرت الحقيقة التي لا ريب فيها، وتبين للعالمين أن إنجلترا هي الموعزة لهم بالثورة، والمحرضة لهم على شق عصا الطاعة للدولة العلية”.
والجميع، يدرك أن المسألة الأرمنية تعرضت للتوظيف السياسي ضد تركيا، ولم يكن ذلك حرصا على المبادئ، ولا بكاء على حقوق الإنسان، ولكنها الوسيلة إلى الرفض السياسي على المستوى الدولي؛ ففرنسا تثير القضية لمنع تركيا من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والدوائر الصهيونية الأميركية مستعدة لتوظيفها مرة لصالح تركيا ومرة ضدها حسب مستوى الرضا عن أنقرة.
وقد ظهر هذا بجلاء حين أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أنها مستعدة لاتهام تركيا بالتورط في “إبادة جماعية للأرمن” في الحرب العالمية الأولى؛ وذلك عقب خلافها مع تركيا حول دعم تنظيمي PKK و”غولن” الإرهابيين، إضافة إلى العقوبات المتعلقة بطائرات F-35، وشراء تركيا لمنظومات “S 400” للدفاع الجوي روسية الصنع.
الأرشيف العثماني بالأرقام
وثّق الأرشيف العثماني مقتل قرابة 47 ألف شخصاً، قتلوا في مجازر ارتكبتها العصابات الأرمينية شهدتها مدينة قارص أوائل القرن العشرين، وجمعت عصابات الأرمن 286 شخصاً من الوجهاء في المسجد الكبير وسكبت على أجسادهم الزيت المغلي، حسب المصدر ذاته.
واكتشفت في قرية سوباط عام 1991 مقبرة جماعية يرقد فيها 570 عثمانياً ماتوا حرقاً وجرى التمثيل بجثثهم، واكتشفت أخرى في درجيك عام 2003، وثالثة في كوتشوك تشاتمه، وعثر على رفات 30 شخصاً من عدد 183 قتلوا في المكان ذاته.
واستناداً إلى وثيقة أرشيفية، هناك 185 مقبرة جماعية في مناطق شرق وجنوب شرقي الأناضول، كما أن العصابات الأرمينية قتلت 50 ألف مسلم في أرضروم، و15 ألفاً في وان، و17 ألفاً في قارص، و15 ألفاً في إغدير، و13 ألفاً في أرزنجان، والآلاف في مناطق أخرى.
ومن المعروف أن جمعيتي “الهانشاك” و”الطاشناق” التابعتين للأرمن، قامت عناصرهما بأعمال إرهابية شملت تفجيرات في إسطنبول ومحاولة فاشلة لاغتيال السلطان العثماني.
وكانت السلطات العثمانية قد خططت لتوفير الاحتياجات الإنسانية للمهجرين، لكن ظروف الحرب والاقتتال الداخلي وقطاع الطرق والجوع والأوبئة، لم تحل بين عدد ضخم منهم والتعرض للموت.
وقطعاً حدثت انتهاكات فردية ضد الأرمن، وقامت الحكومة العثمانية بمحاسبة المتورطين فيها رغم أن الحرب كانت قائمة ولم تخمد بعد.