
تتجه الأنظار إلى ولاية إسطنبول، اليوم الخميس، التي تستعد لاستضافة جولة حاسمة من المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا بهدف التوصل إلى حل سلمي للصراع المستمر منذ شباط/فبراير 2022.
تأتي هذه المحادثات بدعوة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبدعم مباشر من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وسط تأكيد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على جاهزيته للحضور.
وتبرز تركيا كوسيط موثوق يحظى بثقة الطرفين المتحاربين، مما يعكس دورها المتنامي كلاعب دبلوماسي بارز في تسوية النزاعات الدولية.
وسبق هذه القمة المرتقبة كلمة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قال فيها “سأكون بانتظار بوتين للقائه في تركيا يوم الخميس المقبل”.
وأبدى زيلينسكي، في تصريح مقتضب لكنه واضح، استعداده الكامل للمشاركة في المفاوضات المقررة في إسطنبول يوم 15 مايو 2025.
ويعكس هذا التصريح ثقة أوكرانيا في تركيا كوسيط محايد، ويؤكد قبولها لإسطنبول كمكان مناسب لإجراء حوار مباشر مع روسيا، رغم التوترات العسكرية المستمرة.
من جهته، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، “أردوغان يتمتع بقدرة ليوفر لنا كل فرص وأجواء التفاوض. إسطنبول هي المكان الأنسب للمفاوضات، فإذا قبلتم ذلك فلنلتقي في إسطنبول يوم 15 مايو الجاري”.
وأعرب بوتين عن ثقته الكبيرة في قدرة تركيا على تهيئة الأجواء الملائمة للمفاوضات، مشيرًا إلى إسطنبول كخيار مثالي لاستضافة الحوار.
ويبرز تصريحه العلاقة الوثيقة بين موسكو وأنقرة، والتي تعززت في السنوات الأخيرة من خلال التعاون الاقتصادي والأمني، مما يجعل تركيا منصة مقبولة لروسيا لإجراء هذه المحادثات.
أما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فقال “يجب أن يتم ذلك في إسطنبول، نعم”.
وأبدى ترامب، في تصريح مقتضب خلال حديثه عن إمكانية عقد مفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، تأييده الصريح لاختيار إسطنبول كموقع للمحادثات.
ويعكس هذا التصريح تقديره لدور تركيا كوسيط موثوق، خاصة في ظل العلاقات الوثيقة التي تربطه بالرئيس أردوغان، والتي تُعدّ عاملاً مهماً في تعزيز مكانة تركيا كمحور دبلوماسي.
وحول ذلك، قال الكاتب السياسي إبراهيم ياسين في حديثه لـ “وكالة أنباء تركيا”، إن “تركيا بالنسبة لأوكرانيا مصدر ثقة نتيجة العلاقات الاقتصادية القوية والعلاقات الأمنية، مثل تصدير طائرات بيرقدار المسيرة إلى أوكرانيا، كما أن تركيا عضو في حلف (الناتو)، وأردوغان يُعتبر صديقًا مقربًا لترامب، الذي يعجب بتصرفاته”.
وأضاف “على الجانب الآخر، العلاقات الروسية-التركية واسعة جدًا، حيث تشمل اتفاقيات اقتصادية وأمنية ومصالح مشتركة، وتركيا تحمل العديد من المصالح الروسية، مما يجعلها الخيار الأفضل بين دول العالم لتكون مكانًا للمحادثات بين روسيا وأوكرانيا”.
وأشار ياسين إلى أن ثقة الطرفين في تركيا تنبع من علاقاتها المتوازنة معهما، فمع أوكرانيا، تُعدّ تركيا شريكًا اقتصاديًا وأمنيًا موثوقًا، بينما مع روسيا، تمتلك تركيا شراكات استراتيجية في مجالات الطاقة والتجارة، مما يجعلها وسيطًا مقبولاً لكلا الطرفين، حسب تعبيره.
وتكشف التصريحات عن عدة عوامل جعلت تركيا الخيار الأمثل لاستضافة المفاوضات:
الموقع الجغرافي الاستراتيجي: تقع تركيا على البحر الأسود، وتتشارك حدودًا بحرية مع روسيا وأوكرانيا، مما يجعلها جسرًا جغرافيًا طبيعيًا.
كما أن مضيق البسفور، الذي تسيطر عليه تركيا، يُعدّ شريانًا حيويًا لروسيا للوصول إلى الأسواق العالمية، مما يعزز ثقة موسكو بأنقرة.
العلاقات الاقتصادية والأمنية: تربط تركيا علاقات اقتصادية قوية مع الطرفين. مع أوكرانيا، تُعدّ تركيا موردًا رئيسيًا للطائرات المسيرة “بيرقدار”، التي لعبت دورًا بارزًا في الدفاع الأوكراني.
ومع روسيا، تشمل العلاقات مشاريع طاقة كبرى مثل خط أنابيب “تركستريم”، واتفاقيات تجارية وسياحية. هذه العلاقات المتوازنة تجعل تركيا شريكًا موثوقًا.
خبرة الوساطة الدبلوماسية: تمتلك تركيا سجلاً ناجحًا في الوساطة، كما في نزاعات أذربيجان وآسيا الوسطى، وتسوية الخلافات في البلقان، وهذه الخبرة، إلى جانب نجاحها في إدارة الملف السوري، عززت مكانتها كوسيط دولي.
العلاقات مع القوى الدولية: علاقة أردوغان الوثيقة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى جانب استدارتها الاستراتيجية نحو روسيا بعد توترات مع الغرب، جعلت تركيا نقطة التقاء مصالح القوى الكبرى، مما يعزز دورها كوسيط محايد.
بدوره، قال المحلل السياسي مالك عبيد في حديثه لـ “وكالة أنباء تركيا”، إنه “بعد نجاح تركيا في إدارة الملف السوري، الذي تسلمته من الولايات المتحدة، أصبحت اليوم اللاعب الأبرز في تسلم قضايا دولية مهمة، خاصة ملف إنهاء النزاع بين روسيا وأوكرانيا، موقعها الجغرافي المطل على البحر الأسود، وحدودها البحرية مع الدولتين، إلى جانب مصالحها الاقتصادية والعسكرية معهما، يعزز دورها”.
وأضاف أن “تركيا لها تجارب سابقة ناجحة في حل النزاعات الإقليمية والدولية، مثل أذربيجان ودول آسيا الوسطى، وحتى في نزاع الصرب والبوسنة والهرسك، إضافة إلى أن روسيا تُعتبر حليفًا أساسيًا لتركيا، خاصة أن مضيق البسفور يُعدّ الشريان البحري المهم لروسيا”.
وتابع أن “هذا الدور تعزز بعد استدارة تركيا نحو روسيا نتيجة تخلي الغرب عنها، وعدم تزويدها بالسلاح الأمريكي المتطور، مما عزز العلاقات الروسية-التركية، إضافة إلى ذلك، علاقة أردوغان الجيدة مع ترامب، وثقة روسيا الكبيرة في سياسة تركيا الخارجية، جعلتها الخيار الأمثل لتسلم ملف حل النزاع”.
وأوضح عبيد أن تركيا تجمع بين الموقع الجغرافي الاستراتيجي، والخبرة في الوساطة، والعلاقات المتوازنة مع الأطراف المعنية، مما يجعلها مركزًا دبلوماسيًا فريدًا قادرًا على استيعاب تعقيدات النزاع الروسي-الأوكراني، حسب تعبيره.
تحليل أسباب ثقة الطرفين بتركيا
الحياد النشط:
نجحت تركيا في الحفاظ على موقف محايد دون التضحية بمصالحها أو الانحياز الكامل لأي طرف. دعمها لأوكرانيا عسكريًا وسياسيًا، إلى جانب تعاونها الاقتصادي مع روسيا، جعلها وسيطًا يحترم مصالح الطرفين.
توقعات المفاوضات
تُعدّ مفاوضات إسطنبول فرصة حاسمة لخفض التصعيد بين روسيا وأوكرانيا، خاصة مع دعم الولايات المتحدة ومشاركة ترامب المحتملة كعامل ضغط دبلوماسي. يرى المحللون أن تركيا، بفضل حيادها وخبرتها، قادرة على تهيئة بيئة مواتية للحوار، مع ضمان حماية مصالح الطرفين. ومع ذلك، تبقى التحديات كبيرة، حيث تتطلب التسوية تنازلات متبادلة في ظل تعقيدات النزاع.
وقال المحلل السياسي باسل المحمد في حديثه لـ “وكالة أنباء تركيا”، إن “الثقة التي تحظى بها تركيا من روسيا وأوكرانيا ليست وليدة اللحظة، بل نتيجة سياسة متوازنة وبراغماتية، ومنذ بداية الحرب، اختارت تركيا أن تقف في منطقة رمادية محسوبة، دون الانحياز الكلي لأي طرف، ومع روسيا، تركيا شريك براغماتي في الطاقة والسياحة والتجارة، وتُسهل بعض العمليات المالية في ظل العقوبات الغربية، ومع أوكرانيا، تدعم تركيا وحدة أراضيها، وتزودها بطائرات بيرقدار المسيرة، وتعارض ضم روسيا للقرم، وبالتالي فإن هذا التوازن جعل تركيا وسيطًا نزيهًا، يشبه الحكم الدبلوماسي، مما منحها شرعية أخلاقية في أعين الطرفين”.
وشدد المحمد على أن قدرة تركيا على الحفاظ على حيادها النشط، دون استغلال النزاع لمصالح ضيقة، جعلها وجهة مفضلة للمفاوضات، متجاوزةً بذلك العديد من العواصم الأوروبية، وفق تعبيره.
تؤكد ثقة روسيا وأوكرانيا بتركيا كوسيط دور أنقرة المتنامي كقوة دبلوماسية إقليمية وعالمية.
ومن خلال موقعها الجغرافي، علاقاتها المتوازنة، وخبرتها في حل النزاعات، تبرز تركيا كمنصة مثالية لاستضافة المفاوضات.
ومع اقتراب موعد 15 أيار/مايو، تتجه الأنظار إلى إسطنبول، حيث قد تكون هذه المحادثات خطوة نحو إنهاء أحد أخطر الصراعات في العقود الأخيرة.