مدونات TRهام

من الحصار إلى الانفتاح.. الآثار السياسية والاقتصادية والقانونية لرفع العقوبات عن سوريا (مقال)

ثلاث زعامات إقليمية بارزة صنعت التحول في المنطقة:

الرئيس أردوغان الذي أثبت أن أنقرة لا تغيب عن أي تحول شرق أوسطي حاسم، وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الذي لطالما سعى إلى تفعيل الدبلوماسية المتزنة، الداعمة للحلول السلمية والتنمية المستدامة والأمير محمد بن سلمان الذي قاد الانفتاح العربي برؤية استشرافية نحو استقرار المنطقة، ،،

نعم حين تجتمع إرادات الدول وتتقاطع مصالحها عند تقاطع الحاجة بالفرصة، يولد التحوّل.
هذا ما شهدناه في الرياض، في القمة التي جمعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس السوري أحمد الشرع، وبمشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر الاتصال المرئي.،،
قمةٌ لم تكن مجرّد اجتماعٍ بروتوكولي، بل إعلان ولادة لسوريا الجديدة – سوريا ما بعد العقوبات، والتي تمخضت عنها النتائج التاليه:

أولًا: في السياسة – حين يلتقي الواقعي بالسيادي

لم يُخفِ الرئيس أردوغان وصفه للقرار بأنه “تاريخي”. وفعلاً، فإن ما حدث لا يمكن قراءته إلا من زاوية إعادة تموضع إقليمي، تتجاوز التفاهمات التقليدية، وتؤسس لشرق أوسط جديد تتوزع فيه الأدوار بميزان براغماتي بارد، لكنّه فاعل.

دور تركيا لم يكن عابرًا، بل أساسيًا في إعادة بناء الجسور بين واشنطن ودمشق، تمامًا كما أن الرياض أدارت هذا الملف بحنكة القائد الإقليمي، لا الوسيط العابر. أما الدوحة، فقد لعبت دور القناة الهادئة التي جمعت ما فرقته السنوات، وأثبتت أن الحكمة في السياسة لا تُقاس بالصوت المرتفع، بل بالنتائج.

ثانيًا: في القانون – الاعتراف بالمؤسسات هو الاعتراف بالدولة

ومن موقعنا القانوني، نقرأ رفع العقوبات بعيون المؤسسات لا العواطف.،،
كان البنك المركزي السوري لسنوات محجوبًا عن نظام “سويفت” العالمي، محروماً من أبسط أدوات التعامل المالي. والآن، تعود سوريا إلى المشهد القانوني الدولي من بابٍ شرعي.

إلغاء الحظر القانوني سيتيح العودة إلى التحكيم الدولي، والتمثيل أمام الهيئات المالية، وتوقيع عقود ذات صفة دولية.
أكثر من ذلك، هو إعلان انتهاء “العقاب الجماعي”، الذي طال حتى القطاع الطبي والتعليمي.

ورفع العقوبات هو أيضًا دعوة ضمنية لإصلاح البيئة التشريعية الداخلية، لتكون سوريا دولة قانونٍ لا فقط مقاومة.
وهذا ما نؤمن به، وما سنسعى إليه، كمؤسسة قضائية تسعى لترسيخ العدالة لا فقط الحفاظ على النظام.

ثالثًا: في الاقتصاد – عودة الأوكسجين إلى جسد الدولة

عودة سويفت كود تعني عودة الحياة إلى الدورة الدموية للاقتصاد. التحويلات المالية، التبادلات التجارية، والاستثمارات ستجد مسالكها بعد أن كانت تُدار عبر ظلال السوق السوداء، مما استنزف المواطن والدولة على حد سواء.

لن تعود سوريا قوية برفع العقوبات فقط، بل بقدرتها على استثمار هذا الانفتاح بحكمة.
و المطلوب اليوم ليس الاحتفال، بل التحرك السريع نحو إعادة الثقة بالمؤسسات، والليرة، والأسواق.

وها نحن، أمام فرصة لا تعوّض لإحياء القطاع المصرفي، وتنشيط سوق التمويل، وتحفيز عودة رؤوس الأموال المهاجرة، لا بالوعود بل بالقوانين.

رابعًا: على السوريين أن ينهضوا من تحت الرماد

هذه اللحظة ليست نصرًا لحكومة، ولا مكسبًا لمعسكر، بل فرصة وطنية ينبغي أن نكون جميعًا – موالاة ومعارضة، في الداخل والخارج – شركاء في اغتنامها.

إن المصالحة الوطنية لم تعد ترفًا سياسيًا، بل ضرورة اقتصادية ومعيشية. وواجب كل سوري – قاضٍ كان أو عاملًا، رجل أعمال أو مغتربًا – أن يسهم في بناء سوريا لا الوقوف على ركامها.

خاتمة:

رفع العقوبات ليس العصا السحرية، لكنه بداية مشروعة لنهاية مرحلة طويلة من الألم.

وإذا كانت الرياض قد جمعت القادة، فإن التاريخ سيجمع الشعوب، حين تدرك أن الحل لا يأتي فقط من فوق، بل من الداخل، من قاع المجتمع، من نبض الشارع، من عرق المزارع، وصبر المعلّم، وعدالة القاضي.

نحن أمام عهد جديد لا تصنعه فقط القمم، بل تعززه الثقة، ويحرسه القانون، وتبنيه الأيدي السورية.
وإننا، في المعهد العالي للقضاء، نعدُ بأن نكون من أوائل الحراس لهذا العهد، نعمل بالقانون، ومن أجل القانون، في دولة تتعافى، وتنهض، وتستحق الحياة.

خالد شبيب

أستاذ الاقتصاد في المجلس العام للمؤسسات والبنوك الإسلامية
زر الذهاب إلى الأعلى