تقاريرحدث في مثل هذا اليوممميز

بذكرى توليه السلطة.. علي عزت بيغوفيتش قائد حرب وبطل سلام (تقرير)

في مثل هذا اليوم، أي 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1990 تولّى علي عزّت بيغوفيتش رئاسة البوسنة والهرسك بعد مسيرة زاخرةٍ بأوجه النضال في الساحات السياسية والميدانية كما الفكرية.

يوافق، اليوم الجمعة، 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، الذكرى السنوية الـ 31 لوصول القائد علي عزت بيغوفيتش إلى كرسي الرئاسة في البوسنة والهرسك، ليصبح بذلك أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك بعد تبني التعددية الحزبية في البلاد.

جمع بيغوفيتش في صفاته السياسي والقائد العسكري والمفكر الإسلامي، ما ساعده على قيادة بلاده خلال سنوات طويلة من الحرب، إلى أن أوصلها إلى برّ السلام.

نظرا لشجاعته وإقدامه على التعبير بوضوح وحرية عن آرائه الجريئة في السياسة والدين الإسلامي، حظي بيغوفيتش بشعبية غير مسبوقة في بلاده، لكنها تسببت له بالملاحقة والسَجن مراتٍ عديدة والأحكام السياسية في زمن تحكُّم الشيوعية بالبلاد.

تعرّض لقضايا مهمة تتعلّق بالعالم الإسلامي المعاصر، وتجديد الفكر الإسلامي، ومن أبرز مؤلّفاته كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب”، الذي قدّم من خلاله اجتهادات مهمة في تفسير ثنائية الإنسان والطبيعة، مرتكزاً على الصدام الفكريّ بالعالم الحديث، وانطلق منها ليطرح تساؤلات حول موقف الإسلام من هذا الصدام.

الولادة والنشأة

وُلِد بيغوفيتش في 8 آب/أغسطس 1925 في مدينة “بوسانا كروبا” البوسنية، لعائلة من البوشناق الأرِستقراطيين، الذين أجبروا على الفرار من العاصمة الصربية بلغراد إلى البوسنة والهرسك في منتصف القرن التاسع عشر، بسبب التزامهم بالدين الإسلامي.

اضطرّت العائلة إلى الانتقال ثانيةً بين الحربين العالميتين، وهذه المرة حطّت رحالها في العاصمة سراييفو، وفي تلك الفترة، كانت الترويج للفكر الشيوعي أوجه في يوغوسلافيا، الأمر الذي تأثّر به بيغوفيتش تزامناً مع تلقّيه تعليماً علمانياً صارماً.

لم يدم تأثره بالشيوعية إلا سنتين، فسرعان ما دخل بيغوفيتش في تردّد وصراعٍ روحيّ ، ما لبث أن عاد بعده واستقرّ على الإيمان وذهب إلى التعمّق بالأمور الدينية، حيث تحدث عن تلك الفترة في كتاباته اللاحقة بالقول “الكون من دون الله بدا بالنسبة لي محض عبث”.

وسّع بيغوفيتش من مداركه الفكرية فاطّلع بإسهاب على الأعمال الكلاسيكية للفلسفة الأوروبية، فتعمّق بكتابات جورج فيلهلم، وفريدريش هيغل، وباروخ سبينوزا، وإيمانويل كانط.

بعد إتمامه تعليمه الثانوي عام 1943، التحق بيغوفيتش بجامعة سراييفو، وحصل على الشهادة العليا في القانون عام 1950، ثمّ نال شهادة الدكتوراه عام 1962، ثمّ أتبعها عام 1964 بشهادة عليا في الاقتصاد.

أتقن اللغات الألمانية والفرنسية، والإنجليزية، وحرص على الإلمام باللغة العربية باعتبارها الوسيلة الأفضل لفهم القرآن الكريم وتجارب التيارات الإسلامية على اختلاف مدارسها.

جمعية الشبّان المسلمين

خلال الحرب العالمية الثانية، أنشأ مع عدد من الشبّان “جمعية الشبّان المسلمين”، تزامناً مع احتلال الكروات لـ سراييفو، وعبّروا من خلالها عن وجهات نظرهم السياسية.

ركّزت الجمعية على قضايا تتعلّق بالسياسة الخارجية والمسائل الروحية، وخاصة ما يتعلق بالعالم الإسلامي المعاصر، رافضين الاستعمار والهيمنة الغربية على بلاد المسلمين.

من وجهة نظر بيغوفيتش ورفاقه، تتصف الحالة السياسية في العالم الإسلامي بأنها رديئة وغير مستدامة، وهذه الأمر دفعهم إلى الدفاع عن الإسلام باعتباره “فكر حياة” قابل للتجديد، ويجب تجديده، مع الحفاظ على جوهره.

شكّلت الجمعية هدفاً لقمع السلطات من جهة، بينما أنهكتها الصراعات داخلها من جهةٍ ثانية، وعام 1944 اصطدم بيغوفيتش لأوّل مرة مع الجمعية، لدى تحالفها مع جريدة الحجاز ورابطة الأئمة، التي لم يكن يتفق مع أفكارها تظراً لنهجها في التفسير الصارم للإسلام، وهو الأمر الذي وجد فيه “السبب في منع تطوّر الفكر الإسلامي في الداخل والخارج”.

مسيرة من النضال

منذ بداية حياته السياسية وبسبب رفضه الاحتلال ودعواته لتجديد الفكر الإسلامي، واجه بيغوفيتش صراعات على عدة جبهات، في مواجهة الشيوعيين واليوغوسلاف والصرب، فاعتقله الشيوعيون لأول مرة وحكِم عليه بالسجن 3 سنوات عندما كان في الـ26 من العمر.

وبعد سنواتٍ طويلة من النضال اعتقل عام 1983مجدداً مع 12 من  النشطاء البوسنيين، في عهد الديكتاتور اليوغوسلافي جوزيف بروز تيتو، حيث واجهوا حكماً مشدّداً بالسجن 14 عاماً بتهمة نشر مبادئ إسلامية تتعارض مع الشيوعية، ووصِفت بأنها “نشاط معادٍ مستوحى من القومية الإسلامية”.

لكن  بيغوفيتش لم يكمل محكوميّته، فنال حكماً بالعفو عام 1988 مع تعثّر الحكم الشيوعي في البوسنة والهرسك، فغادر المعتقل بعد 5 سنوات تقريباً انعكست تدهوراً خطيراً في وضعه الصحي نتيجة ظروف الاعتقال السيئة.

في الفترة اللاحقة، أعلن بيغوفيتش رؤيته الخاصة بالعلاقة بين الإسلام والدولة والمجتمع، ضمن بيانٍ نشره بعنوان “الإعلان الإسلامي”، فما كان من السلطات في جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الاتحادية إلا أن اعتبرته بمثابة “دعوة إلى إدخال الشريعة الإسلامية في البوسنة واستنساخ تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، مع ما يعنيه ذلك من معارضة لقيمها الأساسية.

لكن الوضع لم يدم كذلك طويلاً نهاية الثمانينيات، حيث شهدت الحياة السياسية منعطفاً مهماً مع إدخال نظام التعددية الحزبية في يوغوسلافيا بعد نضالٍ طويل، فسارع بيغوفيتش مع نشطاء بوسنيين آخرين “حزب العمل الديمقراطي” ذا الطابع الإسلامي.

وخلال وقتٍ قصير، حقق هذا الحزب الناشئ شعبيةً واسعة داخل المجتمع البوسني، وتمكن من الفوز بالحصة الأكبر من أصوات المقترعين في الانتخابات البرلمانية عام 1990، الأمر الذي أوصل بيغوفيتش ليصبح رئيس جمهورية البوسنة والهرسك.

لم يصمد الاستقرار طويلاً، فبين العامين 1992 و1990 اندلعت شرارة حربٍ جديدة في البوسنة والهرسك، تواجهت فيه قوات جمهورية البوسنة والهرسك من جهة، والقوات الصربية البوسنية والقوات الكرواتية البوسنية من جهةٍ أخرى بدعمٍ مباشرٍ من صربيا وكرواتيا.

لمدّة 3 أعوام ونصف، أقدمت القوات الصربية على ارتكاب أبشع المجازر بحقّ البوسنة والهرسك، والتي كانت أكثرها وحشيةً مجزرة سربرنيتسا عام 1994.

مع استمرار القتال في ظلّ انكفاء المجتمع الدولي عن القيام بدورٍ فاعلٍ في إرساء السلام وإجبار الصربيين على وقت العدوان، تحوّل بيغوفيتش إلى الاستنجاد بالعالم الإسلامي.

نجحت سراييفو بقيادة بيغوفيتش بالصمود أمام الحصار الصربيّ، بعد تلقّيها المساعدات المادية والسلاح من مختلف الدول الإسلامية، جرّاء المجازر التي وقعت ضد مسلمي البوسنة.

عهد السلام

استمرّت نضالات البوسنيين وصمودهم إلى أن عُرِضت عليهم خطة سلام ووقف إطلاق نار، فبوشرت مباحثات السلام التي امتدّت بين أيلول/سبتمبر وكانون الأول/ديسمبر 1995، لتنتهي الحرب رسمياً بتوقيع اتفاقية “دايتون للسلام” في باريس، التي تمّ بموجبها تشكيل مجلس الرئاسة البوسني.

أوكلت إلى مجلس الرئاسة المؤلف من 3 أعضاء مسؤولية رئاسة وإدارة البلاد بدلاً من رئيس واحد مباشر، وظلّ بيغوفيتش في المجلس حتى العام 2000 الذي انتهت بحلوله ولايته، فقرّر عندها اعتزال الحياة السياسية بسبب تراجع صحّته.

في 19 كانون الأول/أكتوبر 2003، توفي علي عزّت بيغوفيتش بعد أن قاد بلاده بشجاعة وحكمة إلى برّ الأمان عن عمرٍ ناهز 78 عاماً، وفي جعبته العديد من الجوائز التي يستلهم منها ملايين المسلمين حول العالم، منها جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، وجائزة جلال الدين الرومي لخدمة  الإسلام في تركيا، وجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، وجائزة شخصية العام للعالم الإسلامي.

زر الذهاب إلى الأعلى