مدونات TR

رؤى في العمل السياسي والشأن العام (مقال)

إلى الشباب والشابات العاملين والعاملات في الشأن العام…

إنه لمِن فضل الله عليكم أن اخترتم تقدّم الصفوف في زمن التراجع، وأن تقولوا “نحن هنا” في وقتٍ عمّ فيه الانكفاء والصمت وسكنت فيه الرتابة والتقليد!!

لذا أحببت مشاركتكم شيئاً من التأمل لا في كتب السياسة ونظرياتها، ولا في حملات الضغط وتموضعاتها، بل في كلّ ذلك وغيره وأنا أتدبّر حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال باعتباره القدوة النموذجية والمرجعية القيادية العليا لنا:

((إن مِن الشجرِ شجرةً لا يسقط ورقها، وإنها مثلُ المسلم، وهي النخلة)) [رواه البخاري ومسلم].

كلمات قليلة ممن لا ينطق عن الهوى، تحمل فهماً عميقاً للنفس والمجتمع والسياسة.
فالنخلة هنا ليست مجرّد شجرة، بل مثال بشري ممكن أن يقدم لنا رؤى سياسية متى فهمنا المعادلة الدقيقة بين الثبات والمرونة!!
ومن هذه الرؤى:

١- الثبات الجذري دون التصلّب السطحي (Institutional Resilience):

فالنخلة تضرب بجذورها في الأرض، ثابتة في هويتها، لا تقتلعها العواصف.

هذا يشبه السياسي الذي يحتفظ بثوابته القيمية، لكنه لا يقيّد نفسه في صندوق الوسيلة أو الشعار أو الاسم ما دام ذلك ضمن حدود الشريعة متساوقاً وروحها متوافقاً ونصوصها.

فالثبات والصمود لا يعني أبداً الجمود..

ولعل هذا فرق ما بين السياسة الشرعية المقيدة بإطار المرجعية والبراغماتية النفعية المتحللة من كل قيد إلا ما أشرب من هوى الفلسفة المادية.

٢- المرونة الواعية من غير تنازل (Strategic Flexibility):
ننظر إلى سعف النخلة وورقها يتمايل بليونة في وجه الريح، بل حتى أعالي جذعها لئلا تنكسر!

هكذا ينبغي أن يتعامل متعاطو الشأن العام مع المتغيّرات السياسية والاجتماعية؛ تكيّفاً سياقياً (Contextual Adaptation) دون أدنى مساومة على الجوهر..

فمتى تعبّدنا الله بالغاية تتنوّع الوسائل داخل إطار الشرع ومتى تعبّدنا بالغاية والوسيلة معاً نلتزمها ولا نتعدّاها.

٣- الواقعية الذكية (Realpolitik):

النخلة لا تُقاوم الريح عبثاً، بل إنها تنتظر التوقيت وكأننا نشاهد حساب معادلات الفعل ورد الفعل الفيزيائية!وكذلك السياسي الحكيم يعرف متى يصعّد.. متى يتراجع.. متى يصمت ومتى ينقضّ ويحرز النقاط.

فليست كل خطوة للأمام انتصاراً، ولا كل خطوة للوراء هزيمةً. بل لكل مقام مقال..

فالسياسة فن الممكن المنضبط لا فن المستحيل!

وهذا ينقُض تلك التصورات السياسية الحالمة المتأثرة بالسرديات الرومانتيكية، إما كسب الكل وإما لا!!

ألم يقل النبي صلى الله عليه لعلي يوم الحديبية: ((امْحُها يا عَليّ)) دون أن يعني ذلك أبداً التنازل عن الثوابت والاستهتار بالعقائد، بل مجرد تحول بالمسار من الجدل الهادر للأوقات الثمينة إلى الانشغال بما ينبني عليه من الأعمال القويمة..

فكانت مدرسة تعلّم منها عليٌ رضي الله عنه استراتيجية وأد فتنة الخوارج بعد سنوات!

٤- الهدوء المنتِج في مقابل الضجيج الفارغ (Soft Power):

فالنخلة تُظلّل وتمسك التربة من الانجراف.. وتُثمر.. وتنفع…. ولكنها لا تجيد الصراخ.

هكذا تماماً تكون القوة الناعمة الحقيقية: في الأثر، لا في الصخب.

٦- القيادة التكيفية لا السلطوية (Adaptive Leadership):

القيادة لا تعني أبداً فرض الاتجاه، بل هي فتح للخيارات وتمكين الآخرين وتوظيف للكفاءات وتطوير للمهارات بعد اكتشافها.

فالقائد النخلة لا يحتكر الظل، بل ينشره.

هذا بعضٌ مما ظهر لي، وتبقى الرسالة:

ألا نجعل الوسيلة قيداً عندما يكون اللعب في ميدان المباحات.. ولا الطريقة صنماً، ولا علو الصوت مقياساً..

فالميدان ليس مساحة واحدة، ولا المعركة سلاحاً واحداً..

فربما يكون المفتاح السحري بيدك ولم تستخدمه بعد!!

فادي جمال رنّو

رئيس جذور للثقافة والفكر ناشط شبابي ومهتم بالقضايا الفكرية المعاصرة مدرس مادة أصول الفقه في المعاهد الشرعية
زر الذهاب إلى الأعلى