
منذ لحظة ولادته، لم يكن الكيان الصهيوني كيانًا طبيعيًا نبت من أرضه أو ارتكز على شرعية تاريخية أو دينية، بل كان غرسًا استعماريًا وظيفيًا، جرى زرعه في قلب العالم العربي والإسلامي لخدمة مشروع أكبر: المشروع الغربي في نسخته الاستعمارية الحديثة.
حين أسّست بريطانيا هذا الكيان، بدعم غربي ثم أمريكي لاحق، لم تكن تبحث عن وطن لليهود بقدر ما كانت تخطط لزرع قاعدة متقدمة دائمة، تشاغل بها هذه الأمة وتُبقيها في حالة نزيف دائم، وتمنع أي نهوض وحدوي حضاري قد يهدد مصالحها في النفط والممرات والموقع والثروات. وقد أدى هذا الكيان وظيفته في العقود الأولى بكفاءة: قمع المقاومة الفلسطينية، ضرب العمق العربي في أكثر من جبهة، التحالف مع أنظمة الانقلابات، وكان سيفًا بيد الغرب ضد كل حركة تحرر أو استقلال حقيقي. كان الغرب يراه أصلًا استراتيجيًا، ويغدق عليه المال والسلاح والدعم السياسي بلا حدود، وهو في ذلك لم يكن عبئًا، بل استثمارًا رابحًا.
لكن المشهد تغيّر. فبعد السابع من أكتوبر، وفي زمن الشاشات المفتوحة والوعي العالمي المتصاعد، لم يعد بالإمكان تجميل وجه هذا الكيان، ولم تعد الرواية الصهيونية قادرة على تغطية المجازر والجرائم. ما كان يُخفيه الإعلام الرسمي، كشفته الكاميرات المحمولة. وما كان يُغطى بـ”الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، تعرّى في مشاهد الإبادة في غزة، والهدم في جنين، والقصف في رفح، والحصار في القدس. أصبح الكيان عبئًا أخلاقيًا على الغرب، أمام شعوبه قبل أن يكون عبئًا ماديًا واستراتيجيًا.
الجامعات الأميركية تغلي، ومئات الأكاديميين والمثقفين ينفضّون عن دعمه، والنقابات والمجالس الطلابية تعلن العصيان. لم يعد الرأي العام الأمريكي والغربي مستعدًا لتبرير مليارات الدولارات تُدفع سنويًا لكيانٍ يقصف المستشفيات بما فيها من جرحى وأطفال، ويحوّل المخابز إلى ركام، ويصنع من المدارس مقابر جماعية، ويمنع دخول الغذاء والدواء حتى يموت الأطفال على أبواب الشاحنات، ويزج الآلاف في المعتقلات دون محاكمة، ثم يدّعي أنه “واحة الديمقراطية” في الشرق الأوسط.
وفي العمق الإستراتيجي، لم تعد “إسرائيل” أداة تحكم، بل صارت مصدر فوضى. لم تعد قادرة على الحسم العسكري، ولم تعد تمتلك تفوق الردع. تعجز عن سحق فصائل المقاومة، وتخسر الحرب النفسية، وتغرق في الداخل المنقسم، حتى بات الحديث عن حرب أهلية ليس مستبعدًا.
الحقيقة التي يعرفها الجميع، هي أن هذا الكيان لا يستطيع البقاء يومًا واحدًا دون دعم خارجي شامل. هو كيان يعيش على التنفس الصناعي: سياسيًا وعسكريا واقتصاديا، فلولا الفيتو الأميركي لتم تجريمه في مجلس الأمن؛ ولولا التفوق الأمريكي والغربي لما استطاع مواجهة مقاومة بدائية بالسلاح؛ ولولا المعونات والمساعدات لانهار اقتصاده في أشهر. هذا ليس كيانًا ذاتيًا، إنه مشروع وظيفي. زرعوه ليخدم، لا ليبقى. وكلما فقد وظيفته، سقط مبرر وجوده. وكلما كُشف عجزه، تضاعف عبؤه. وكلما انكشف للعالم، فَقَد شرعيته الأخلاقية والسياسية.
منذ البداية، لم يكن هذا الكيان دائمًا. كان مزروعًا، مشروطًا، مرحليًا. والمرحلة تقترب من نهايتها. الغرب لم يعد قادرًا على تبرير جرائمه، ولا تحمّل تكلفته، ولا حماية أمنه الداخلي من تبعات دعمه. والسؤال الذي يتردد في أروقة السياسة الغربية الآن ليس: كيف نحمي إسرائيل ؟، بل: إلى متى سنظل نتحمل هذا الكيان ؟. هل من المصلحة الاستمرار في دعمه ؟. هل لا زال حاميًا للمصالح، أم بات مهددًا لها ؟. هل لا زال أصلًا، أم بات عبئًا ؟!.
والسؤال الأخير يكفي وحده لندرك أن نهاية هذا المشروع المزروع قد بدأت، وأن زواله ليس أُمنية، بل قراءة موضوعية لمسار متآكل، وسقوط حتمي لكيان لم يكن يومًا إلا ظلًا لهيمنة خارجية فقدت قبضتها.