
ادعى رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال لقائه الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس، قبل يومين أن “عدم تعاون قطر هو السبب الرئيسي وراء انهيار صفقة تبادل الأسرى ومفاوضات وقف إطلاق النار الأخيرة” مع حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، داعيا إلى “زيادة الضغط على (حماس) وقطر لتسهيل التقدم”.
لكن هذه الادعاءات قوبلت بانتقادات واسعة، حيث يرى المحللون والمراقبون أن نتنياهو نفسه هو المهندس الرئيسي لتعطيل المفاوضات.
ويقدم هذا التقرير تحليلاً مفصلاً ومبنياً على الأدلة لتفنيد ادعاءات نتنياهو، مبرزاً أن مناوراته السياسية، وتصعيده العسكري، ورفضه للحلول الدبلوماسية هي العوائق الحقيقية أمام السلام في غزة.
تصاعد الصراع في غزة بشكل غير مسبوق منذ عملية حركة “حماس” في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، المعروف باسم عملية “طوفان الأقصى”، ما أدى إلى دمار هائل في غزو بسبب وحشية عدوان الاحتلال الإسرائيلي، وعشرات آلاف الشهداء والجرحى الفلسطينيين.
وتهدف مفاوضات وقف إطلاق النار، التي توسطت فيها قطر ومصر والولايات المتحدة بشكل رئيسي، إلى تأمين تبادل الأسرى، وقف الأعمال العدائية، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة.
ويُعد ادعاء نتنياهو أن “عدم تعاون قطر هو السبب في فشل الصفقة الأخيرة” انحرافاً كبيراً عن الرواية المعتمدة.
من المعروف أن قطر لعبت دوراً محورياً كوسيط، حيث تستضيف المكتب السياسي لـ”حماس” وتسهل المفاوضات غير المباشرة منذ بداية عدوان الاحتلال الإسرائيلي، وبالتعاون مع بقية الفرقاء، نجحت قطر في التوسط لإبرام عدة هدن ودفعت باستمرار نحو اتفاقيات شاملة.
على سبيل المثال، في أيار/مايو 2024، وافقت “حماس” على اقتراح قطري مصري لوقف إطلاق نار على مراحل، يشمل تبادل الأسرى وخطط إعادة الإعمار، لكن الاحتلال الإسرائيلي رفضه.
وحظيت الجهود الدبلوماسية القطرية بتأييد الجهات الدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة والأمم المتحدة، التي أشادت بدورها في تخفيف التصعيد.
وأشار تقرير لصحيفة “هآرتس” العبرية في آذار/مارس 2025 إلى “المناورات الاستراتيجية لقطر للحفاظ على استمرار المفاوضات، حتى من خلال تجاوز تأخيرات نتنياهو للتعامل مباشرة مع الوسطاء الأمريكيين”، ما أجبر الاحتلال الإسرائيلي على العودة إلى طاولة المفاوضات.
هذه الحقائق وغيرها تقوض رواية نتنياهو، فبدلاً من عرقلة المحادثات، كانت قطر وسيطاً نشطاً، يتنقل عبر الديناميكيات الإقليمية المعقدة للحفاظ على الحوار.
ويبدو أن محاولة نتنياهو تحميل قطر المسؤولية هي تكتيك لصرف الانتباه عن تعنت حكومته.
تشير الأدلة بشكل ساحق إلى أن نتنياهو هو العائق الرئيسي أمام اتفاقيات وقف إطلاق النار.. أفعاله، المدفوعة بالبقاء السياسي والالتزامات الأيديولوجية، قوضت باستمرار الجهود الدبلوماسية.
فيما يلي تحليل مفصل لدوره:
1. رفض مقترحات وقف إطلاق النار
رفض نتنياهو مراراً مقترحات وافقت عليها “حماس” أو أبدت مرونة تجاهها.
في أيار/مايو 2024، تصاعدت العمليات العدائية العدوانية الإسرائيلية في رفح، بما في ذلك السيطرة على معبر رفح، بالتزامن مع موافقة “حماس” على خطة وقف إطلاق نار قطرية-مصرية، مما أدى إلى إفشال الصفقة فعلياً.
وبالمثل، في كانون الأول/ديسمبر 2024، أشارت تقارير إلى أن “حماس” كانت منفتحة على اتفاق تدريجي مشابه لوقف إطلاق النار في لبنان، لكن إصرار نتنياهو على مواصلة العمليات العدائية العسكرية عطل التقدم.
ويلاحظ المحللون أن رفض نتنياهو الالتزام بوقف دائم لإطلاق النار الذي هو مطلب أساسي لـ”حماس” ينبع من خوفه من استعداء شركائه في الائتلاف اليميني المتطرف، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، اللذين يعارضان أي تنازلات لحماس، فقد وصف سموتريتش صفقة مقترحة بأنها “استسلام”، مهدداً بإسقاط الحكومة إذا تم المضي قدماً فيها.
2. التصعيد العسكري كوسيلة ضغط في المفاوضات
استخدم نتنياهو العمليات العدوانية العسكرية للضغط على حماس، وهي استراتيجية ارتدت سلباً بتشديد موقف حماس.
ووصف المحللون استئناف القصف المكثف في غزة في آذار/مارس 2025 بأنه محاولة متعمدة لإجبار حماس على قبول شروط الاحتلال الإسرائيلي، لكنه فشل في تحقيق تنازلات، وشككت قيادة جيش الاحتلال الإسرائيلي نفسها، بما في ذلك رئيس الأركان هيرتسي هاليفي، في جدوى المزيد من التصعيدات، واصفين إياها بأنها “انتحارية” وتفتقر إلى أهداف واضحة.
كما أُطلقت عملية رفح في أيار/مايو 2024 كتكتيك ضغط، لكنها أثارت إدانة دولية وأجهدت العلاقات مع مصر، مما زاد من تعقيد جهود الوساطة.
تعكس هذه الأفعال تفضيل نتنياهو للحلول العسكرية على الدبلوماسية، مع إعطاء الأولوية للأهداف السياسية الداخلية على استقرار المنطقة.
3. البقاء السياسي والضغوط الداخلية
يواجه نتنياهو تحديات داخلية كبيرة، بما في ذلك احتجاجات تطالب بصفقة لإطلاق سراح الرهائن وإجراء انتخابات مبكرة.
وأظهر استطلاع رأي في أيار/مايو 2024 أن أكثر من نصف ال إسرائيليين يؤيدون وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بدلاً من هجوم رفح، ويفضلون وزير الدفاع بيني غانتس كرئيس للوزراء. ومع ذلك، يعتمد ائتلاف نتنياهو على وزراء متشددين يعارضون أي صفقة، مما يجبره على إعطاء الأولوية لمطالبهم للحفاظ على السلطة.
يدعم تاريخه السياسي هذا النمط، إذ يشير المحلل الفلسطيني محمد القيق في حديثه لـ “وكالة أنباء تركيا” إلى أن “مسيرة نتنياهو تميزت بتعطيل عمليات السلام”، مستشهداً “بتفويضه في عام 1997 لمحاولة اغتيال فاشلة لزعيم حماس خالد مشعل، والتي كادت أن تؤدي إلى انهيار معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن”.
وبالمثل، “أيد اتفاقية الخليل، رغم عدم شعبيتها وجدلها القانوني، ودعمه المستمر لتوسيع المستوطنات يتحدى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، مما يقوض ثقة الفلسطينيين في المفاوضات”.
4. التحريف والدعاية
تتماشى اتهامات نتنياهو لقطر و”حماس” مع استراتيجية أوسع لتحويل اللوم.
وهنا يجادل الصحفي اليمني صدام حريبي في حديثه لـ “وكاللة أنباء تركيا”، أن “نتنياهو يسعى لتبرئة نفسه من المسؤولية عن الأزمة الإنسانية في غزة وفشل 7 أكتوبر، الذي كشف نقاط ضعف إسرائيل الأمنية، ومن خلال تصوير قطر وحماس كمعرقلين، يصرف نتنياهو الانتباه عن عجز حكومته عن تأمين الرهائن أو تحقيق الأهداف العسكرية، على الرغم من ادعائه “هزيمة” حماس—وهو ادعاء سخرت منه وسائل التواصل الاجتماعي لانفصاله عن الواقع”.
هذا التكتيك ليس جديداً، ففي تموز/يوليو 2024، حذر رئيس الموساد ديفيد بارنيا من أن فرض نتنياهو شروطاً جديدة يهدد بانهيار المحادثات، وهو شعور أيده وزير الدفاع يوآف غالانت، الذي اتهمه بإعطاء الأولوية لاستقرار الائتلاف على المصالح الوطنية، كما كشفت تقارير إعلامية عن استخدام نتنياهو لـ”مصادر دبلوماسية” مجهولة لتقويض الصفقات، وهي ممارسة انتقدها صحفيون إسرائيليون كتخريب متعمد.
وعلى عكس تصوير نتنياهو، أظهرت “حماس” مرونة في المفاوضات، إذ إن موافقتها على اقتراح قطر-مصر في أيار/مايو 2024 وانفتاحها على صفقات تدريجية في كانون الأول/ديسمبر 2024 تشير إلى استعداد للتسوية، شريطة تلبية المطالب الأساسية، مثل وقف دائم لإطلاق النار وانسحاب القوات.
وينبع إصرار “حماس” على هذه الشروط من الأثر المدمر للحرب، حيث تواجه غزة المجاعة وانهيار البنية التحتية، مما يجعل إعادة الإعمار ووصول المساعدات أمرين حاسمين.
وتعكس استراتيجية “حماس” أيضاً أهدافها السياسية، حيث يبرز القيق أن “هجوم 7 أكتوبر، رغم إثارته للجدل، أعاد إحياء القضية الفلسطينية عالمياً، مقوضا سنوات من جهود التطبيع من قبل الدول العربية، ومن خلال الحفاظ على موقف صلب في المحادثات، تسعى حماس لتأمين مكاسب ملموسة، مثل إطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين، مع الحفاظ على شرعيتها السياسية”.
ويستند دور قطر كوسيط إلى موقعها الاستراتيجي، فمنذ استضافتها للمكتب السياسي لحماس في 2012، استفادت قطر من نفوذها لتسهيل الحوار، وحظيت بالثناء على حياديتها.
وكان تنسيقها مع مصر والولايات المتحدة حاسماً في صياغة مقترحات توازن بين مطالب الطرفين، فعلى سبيل المثال، تضمنت هدنة نوفمبر 2023 ضمانات من الرئيس الأمريكي جو بايدن، مما يبرز قدرة قطر على تأمين دعم دولي.
وتتجاهل انتقادات نتنياهو لقطر مساهماتها الأوسع، فإلى جانب الوساطة، قدمت قطر ملايين الدولارات كمساعدات لغزة، غالباً بناءً على طلب الاحتلال الإسرائيلي، لتحقيق الاستقرار في المنطقة. وقد تعكس محاولته تحميل قطر المسؤولية انزعاجاً من تنامي نفوذها الدبلوماسي، كما يتضح من منشورات على منصة إكس تمدح قدرة قطر على تهميش الاحتلال الإسرائيلي في المحادثات.
تفنّد الأدلة بوضوح ادعاءات نتنياهو أن قطر وحماس مسؤولتان عن انهيار مفاوضات وقف إطلاق النار.
فوساطة قطر المستمرة، بدعم من مصر والولايات المتحدة، أبقت المفاوضات حية على الرغم من تعنت إسرائيل، بالمقابل أظهرت “حماس”، رغم صلابة مطالبها الرئيسية، مرونة، وقبلت مقترحات رفضها الاحتلال الإسرائيلي.
ومع ذلك، أعطى نتنياهو الأولوية للتصعيد عدوان الاحتلال الإسرائيلي العسكري والبقاء السياسي على الدبلوماسية، رافضاً صفقات قابلة للتطبيق، ومصعّداً العمليات في رفح، ومستبعداً الوسطاء.
وكما يؤكد حريبي والقيق، فإن “اتهامات نتنياهو لقطر هي محاولة يائسة لصرف اللوم عن إخفاقاته، خاصة هفوة 7 أكتوبر الأمنية وأزمة الرهائن المستمرة”.
وبعيداً عن كونها عائقاً، تظل وساطة قطر ركيزة أمل لتخفيف التصعيد، بينما تستمر أفعال نتنياهو في إدامة العنف والمعاناة في غزة.
ويرى مراقبون أنه يجب على الولايات المتحدة والأمم المتحدة تكثيف الضغط على الاحتلال الإسرائيلي لقبول مقترحات وقف إطلاق النار التدريجية، مستفيدة من وساطة قطر بالتحديد.
كما ينبغي للمحكمة الجنائية الدولية متابعة التحقيقات في أفعال نتنياهو، بما في ذلك توسيع المستوطنات وجرائم الحرب المحتملة، لردع المزيد من التصعيد.
ومن خلال التركيز على الدبلوماسية والمساءلة، يمكن للمجتمع الدولي تحدي عرقلة نتنياهو وتمهيد الطريق لحل عادل في غزة، وفق المحللين.