مدونات TRمميز

تحالف سوريا وتركيا يعيد رسم الخريطة السورية ويعجل من انهيار “قسد” (مقال)

أولاً: المشهد يتغيّر و”قسد” تترنّح على حافة الانهيار

بينما تنشغل “قسد” بصراعاتها الداخلية، وتتصاعد الخلافات بين قياداتها، تبدأ ملامح التفكك بالظهور بوضوح. فاجتماعات التوتر وتبادل التخوين بين قادة الصف الأول لم تعد مجرد تسريبات، بل أصبحت حقائق دامغة تعكس حجم التصدع البنيوي داخل هذا الكيان الذي نشأ خارج الشرعية الوطنية.

وبات جلياً أن القوى الفاعلة داخله انقسمت إلى تيارين:

أحدهما يدعو للالتحاق بالدولة السورية والانخراط في مشروعها الدستوري الجامع.

والآخر لا يزال يعيش على أوهام الدعم الأجنبي والمغامرة العسكرية والمقامرة بمستقبل كل أتباع قسد.،،
لكن الزمن تجاوز تلك المغامرات، وبات المشروع الانفصالي يترنّح تحت وطأة التغيرات الدولية والإقليمية، في ظل بيئة سياسية جديدة ترفض الكيانات الخارجة عن الدولة.

ثانياً: التحالف السوري التركي

من الضرورة الأمنية إلى إعادة إنتاج الجغرافيا السياسية

التحالف الذي يتبلور بين دمشق وأنقرة اليوم لم يعد تحالف ظرف أو تقاطع مصالح عابر، بل تحوّل إلى مسار استراتيجي يعيد ضبط التوازنات في الشمال السوري. فقد أفضت التفاهمات الأمنية والسياسية بين الجانبين إلى تحييد الفوضى، وضبط الحدود، وتدشين مرحلة جديدة من التعاون الإقليمي، عنوانها الأبرز: سيادة الدولة السورية على كامل ترابها.

وفي ضوء هذا التحالف، تتقلص المساحات الرمادية، وتُغلق نوافذ الرهانات الأجنبية، وتُفتح أبواب الحلول الوطنية، حيث لم يعد مقبولاً – لا واقعاً ولا قانوناً – بقاء أي كيان مسلح خارج مؤسسات الدولة.

ثالثاً: رفع العقوبات وعودة الشرعية الدولية للدولة السورية

إن قرار رفع العقوبات الأميركية عن سوريا ليس مجرد تحول سياسي، بل هو اعتراف دولي ضمني بشرعية الدولة ومؤسساتها بقيادة الرئيس أحمد الشرع. وبهذا القرار، طويت مرحلة “اللاءات” الغامضة، ليبدأ عهد جديد تُمنح فيه الدولة السورية المساحة الكاملة لإعادة تنظيم شؤونها، وفرض سيادتها بالقانون لا بالقوة

رابعاً: الدستور هو السقف الأعلى للشرعية وحاضنة التنوع الوطني

إن دعوات بعض قيادات “قسد” للانخراط في الدولة ليست تنازلاً، بل عودة إلى مرجعية دستورية جامعة، تضمن الحقوق وتُحصن التنوع، وتمنع التهميش أو الإقصاء.

وكما جاء في مقدمة مشروع الدستور السوري الجديد:
“سوريا وطن لكل أبنائه، تُصان فيه كرامة الإنسان، ويُصاغ مستقبله بالإرادة الحرة للمواطنين، ضمن دولة موحدة ذات سيادة لا تقبل التجزئة.”

ومن هذا المنطلق، فإن أي انخراط في مشروع الدولة لا يعني الذوبان، بل المشاركة الفعلية في إدارة الشأن العام، ضمن دولة مؤسسات لا دولة سلاح.

خامساً: القضاء السوري عماد الدولة وحاضنة الوحدة الوطنية

في خضم الصراع السياسي والعسكري، تبقى المؤسسة القضائية الوطنية هي الحصن الأخير للدولة، لأنها الوحيدة القادرة على فرض القانون، وحماية الحقوق، وضمان المحاسبة والمساءلة.

فالقضاء ليس طرفاً في النزاع، بل هو إطار جامع لكل السوريين، ومنصة لحل النزاعات بعيداً عن لغة السلاح.

وكما ينص مشروع الإصلاح القضائي: “لا سلطان على القاضي في قضائه لغير القانون، ولا يجوز لأي سلطة أن تتدخل في سير العدالة.”

وانطلاقاً من ذلك، فإن توحيد القضاء لا يعني مجرد إعادة هيكلة، بل هو إعادة بناء للثقة، وتأسيس لعقد اجتماعي جديد تكون العدالة فيه المرجعية لا الولاءات المناطقية أو السياسية.

ونحن في المعهد العالي للقضاء، نحرص على تخريج جيل قضائي موحد، مؤمن بوحدة الدولة، متسلح بالمعرفة القانونية، ومؤتمن على حقوق الناس، في كل من الشرق والغرب، من الحسكة إلى درعا، ومن إدلب إلى دير الزور.

سادساً: الخيارات تضيق أمام “قسد” فإما الدولة أو العدم

في ظل غياب الحماية الغربية، وتراجع الرهان على الحليف الأميركي، لم يعد أمام “قسد” إلا خياران لا ثالث لهما:
1. الاندماج في الدولة السورية ضمن رؤية وطنية دستورية.

2. أو التفكك والانهيار الذاتي نتيجة صراعات الداخل وانقطاع الخارج.

فالمرحلة الآن لا تحتمل الكيانات العشوائية ولا الولاءات المزدوجة. الدولة تتقدم، والمشهد يُرسم من جديد… والشرعية تعود بثبات وقوة.

خاتمة: من الفوضى إلى السيادة

لقد انتهى زمن الوصاية، وبدأت مرحلة السيادة، لا بالخطابات والشعارات، بل بتحالفات واقعية، وإصلاحات مؤسساتية، وقيادة وطنية تعرف ماذا تريد.

وسوريا، التي تنهض من رماد الحرب، تبني الآن شرعيتها على أسس قانونية ودستورية ومؤسساتية، يعاد فيها الاعتبار للحق، وتُستعاد بها الهيبة، ويتكرّس فيها الوطن الواحد لا المتعدد.

كلمة ختامية من المعهد العالي للقضاء

إننا في المعهد العالي للقضاء، إذ نتابع هذه التحولات العميقة في المشهد الوطني والإقليمي، نؤكد التزامنا الثابت بدورنا الدستوري والمهني في بناء قضاء مستقل وموحّد، يمثل جميع أبناء سوريا دون تمييز، ويشكل الركيزة الأساس في مشروع الدولة الحديثة بقيادة الرئيس أحمد الشرع.

إن وحدة القضاء هي التعبير الأرقى عن وحدة الدولة، وهي الضامن لحقوق الأفراد، وحماية المصلحة العامة، وتحقيق العدالة الانتقالية التي تمهد لبناء مجتمع سياسي سليم ومتماسك.

ونحن اليوم، في هذه المرحلة الفاصلة، نمد يدنا لكل من آمن بالوطن، ونفتح أبواب المؤسسة القضائية لكل الكفاءات الوطنية في الشرق والشمال والجنوب، لتكون العدالة السورية هي اللغة الوحيدة الجامعة بعد أن تهاوت لغات السلاح والمناطقية والارتهان.

سوريا واحدة، وشعبها واحد، ودستورها سيكون الميثاق الأعلى الذي نحتكم إليه جميعاً.

خالد شبيب

أستاذ الاقتصاد في المجلس العام للمؤسسات والبنوك الإسلامية
زر الذهاب إلى الأعلى