
في عالم يشهد تزايدًا مستمرًا في الوعي المجتمعي والسياسي، تبرز المقاطعة كأداة فعّالة للتعبير عن الرفض تجاه السياسات غير المقبولة أو غير الأخلاقية. في هذا السياق، يمكن تقسيم مفهوم المقاطعة إلى نوعين: المقاطعة السلبية والمقاطعة الإيجابية، ولكل منهما تأثيره وأهميته الخاصة.
المقاطعة السلبية
تتمثل المقاطعة السلبية في الامتناع عن شراء المنتجات والخدمات المقدمة من الشركات التي تدعم الكيان الصهيوني.
هذه الخطوة تمثل رفضًا صريحًا للممارسات غير الإنسانية التي تتبناها هذه الشركات من خلال دعمها للكيان المحتل. المقاطعة السلبية هي بمثابة رسالة احتجاج واضحة تعبر عن التضامن مع حقوق الشعب الفلسطيني ومعارضتنا للظلم.
وفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة “BDS Movement” عام 2015، فإن حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) أسهمت في إلحاق أضرار مالية كبيرة بالشركات الداعمة للاحتلال الإسرائيلي، قد أظهرت الدراسة أن بعض الشركات العالمية فقدت عقودًا بمليارات الدولارات بسبب حملات المقاطعة.
على سبيل المثال، شركة “فيوليا” الفرنسية خسرت عقودًا تبلغ قيمتها أكثر من 20 مليار دولار نتيجة لحملات المقاطعة ضد مشاريعها في المستوطنات الإسرائيلية.
ومع ذلك، ورغم أهمية هذه الخطوة، فإن تأثيرها يبقى محدودًا إذا اقتصرنا على الامتناع فقط. فالمقاطعة السلبية تتطلب تضامنًا واسع النطاق، لكنها بمفردها قد لا تكون كافية لإحداث التغيير المرجو.
المقاطعة الإيجابية
أما المقاطعة الإيجابية، فهي تتجاوز مجرد الامتناع عن الشراء لتتحول إلى أداة فعالة لدعم القضية الفلسطينية بشكل مباشر.
الفكرة هنا ليست فقط في مقاطعة المنتجات التي تدعم الكيان الصهيوني، بل في تحويل الأموال التي كانت تُخصص لشراء تلك السلع والخدمات إلى دعم المشاريع والمؤسسات التي تعزز صمود الشعب الفلسطيني، سواء عبر تقديم المساعدات الإنسانية، أو دعم التعليم والصحة، أو الاستثمار في الاقتصاد الفلسطيني.
تشير إحصائية صادرة عن “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية” عام 2020 إلى أن تحويل الأموال الناتجة عن حملات المقاطعة إلى دعم الاقتصاد الفلسطيني يمكن أن يزيد الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 10% سنويًا. كما أظهرت دراسة أخرى أن زيادة الاستثمار في المشاريع الفلسطينية يمكن أن يساهم في خلق آلاف فرص العمل، مما يعزز من صمود الشعب الفلسطيني في وجه التحديات الاقتصادية.
المقاطعة الإيجابية تعني أن كل مبلغ كان يُنفق على منتجات أو خدمات تدعم الاحتلال يُعاد توجيهه لدعم حق الفلسطينيين في الحياة والكرامة.
إنها ليست فقط موقفًا سلبيًا تجاه الظلم، بل هي مساهمة إيجابية في بناء مستقبل أفضل للشعب الفلسطيني.
مثال على تأثير المقاطعة الإيجابية
لو افترضنا أن مجتمع المقاطعة حول العالم يبلغ خمسة ملايين شخص، وكان كل شخص ينفق شهريًا 100 دولار على المنتجات التي تقاطع الشركات الداعمة للاحتلال، فإن هذا يعني تحويل 500 مليون دولار شهريًا، أو 6 مليارات دولار سنويًا، لدعم الاقتصاد الفلسطيني. هذا المبلغ يمكن أن يحدث فارقًا كبيرًا في تحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين، دعم التعليم والصحة، وتعزيز المشاريع التنموية.
هل للمقاطعة تأثير اقتصادي فقط؟
المقاطعة ليست مجرد قرار اقتصادي، بل هي تعبير سلوكي يعكس الوعي والمسؤولية الفردية والاجتماعية. بالنسبة للفرد، تعزز المقاطعة الوعي بأهمية كل قرار استهلاكي يُتخذ، مما يزيد من القدرة على التحكم في الخيارات الشخصية ويمنح شعورًا بالقوة الأخلاقية. إنها وسيلة لتعليم النفس الانضباط والالتزام بالمبادئ، حيث يتحول الامتناع عن شراء منتج معين إلى تعبير فعلي عن القيم التي يؤمن بها الشخص.
على مستوى المجتمع، تلعب المقاطعة دورًا محوريًا في بناء الوعي الجماعي وتقوية الروابط الاجتماعية حول قضية مشتركة. عندما يشارك أفراد المجتمع في المقاطعة، ينمو لديهم الشعور بالانتماء والالتزام بالقضية، مما يخلق نوعًا من الوحدة والتضامن. هذا التضامن لا يقتصر فقط على تعزيز القضية التي يتم دعمها، بل يمتد ليصبح جزءًا من الهوية الثقافية والاجتماعية للمجتمع، مما يزيد من قوته في مواجهة التحديات.
ختام الكلام
إن المقاطعة الإيجابية والمقاطعة السلبية تكملان بعضهما البعض. الأولى تُعبر عن رفضنا واستنكارنا، بينما الثانية تمثل التزامنا بالعمل الإيجابي لدعم القضية الفلسطينية. من خلال هذين النهجين، يمكننا ليس فقط أن نُحدث تأثيرًا اقتصاديًا على الشركات التي تدعم الاحتلال، بل أيضًا أن نكون جزءًا من الحل، من خلال توجيه مواردنا لدعم صمود الفلسطينيين وبناء مستقبل أكثر عدلًا وإنسانية.