
باتت تركيا في السنوات الأخيرة قوة إقليمية بارزة، تسعى لتعزيز نفوذها العالمي من خلال سياسة خارجية تعتمد على التعاون الاستراتيجي والالتزام بالاتفاقيات الرسمية التي توقعها مع الدول والحلفاء، حيث إن صديق تركيا يجدها عند الضيق فـ”الصديق وقت الضيق” مبدأ أساسي في السياسة التركية.
وتتبنى تركيا نهجًا براغماتيًا يقوم على مبدأ “التحالفات الرسمية”، حيث تتجنب التدخل في شؤون الدول الأخرى ما لم يكن هناك إطار قانوني واضح يحكم العلاقة.
سياسة تركيا الخارجية.. البراغماتية والالتزام بالاتفاقيات
تعتمد تركيا في علاقاتها الدولية على إبرام اتفاقيات رسمية تحدد أطر التعاون في مجالات متعددة مثل الدفاع، الاقتصاد، الطاقة، والإعلام.
هذا النهج يعكس رؤية الحكومة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية، التي تسعى لتحقيق التوازن بين مصالحها الوطنية وتعزيز الاستقرار الإقليمي.
ووفقًا لموقع وزارة الخارجية التركية، ترى تركيا نفسها جزءًا لا يتجزأ من العائلة الأوروبية، لكنها في الوقت ذاته تعزز علاقاتها مع دول الشرق الأوسط، آسيا، وإفريقيا، ما يمنحها موقعًا فريدًا كجسر بين الشرق والغرب.
وتتجنب تركيا التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول الأخرى إلا في إطار اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف.
على سبيل المثال، عام 2022، وقّعت تركيا وماليزيا 7 اتفاقيات تعاون في مجالات الصناعات الدفاعية، التكنولوجيا، الصحة، والإعلام، مما عزز العلاقات بين البلدين على أسس رسمية، كما أبرمت تركيا اتفاقيات مع دول مثل الصومال، ليبيا، وفلسطين، تشمل التعاون الأمني والعسكري، مما يعكس التزامها ببناء تحالفات استراتيجية واضحة.
تركيا كحليف قوي.. الالتزام بالتحالفات
تُظهر تركيا التزامًا قويًا تجاه حلفائها عندما يتم توقيع اتفاقيات رسمية، وهذا الالتزام يتجلى في دعمها العسكري والسياسي لدول مثل ليبيا، حيث وقّعت مذكرة تفاهم أمنية وعسكرية مع حكومة الوفاق الوطني في عام 2019، ما ساهم في تعزيز موقف طرابلس في الصراع الليبي.
كذلك، دعمت تركيا قطر خلال حصار قطر (2017-2021) من خلال تعزيز التعاون العسكري والاقتصادي.
وفي سياق فلسطين، تُعد تركيا داعمًا رئيسيًا للقضية الفلسطينية، حيث وقّعت عدة اتفاقيات مع السلطة الفلسطينية في مجالات التعليم، الثقافة، والأمن.
على سبيل المثال أيضا، عام 2018، وقّعت تركيا اتفاقية تعاون أمني مع فلسطين لتدريب قوات إنفاذ القانون، ما يعكس دعمها الثابت للشعب الفلسطيني ضمن إطار رسمي.
تجنب التدخل دون اتفاقيات رسمية
وتتمسك تركيا بسياسة عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى دون وجود اتفاقيات رسمية تحدد طبيعة العلاقة.
وهذا المبدأ يظهر بوضوح في تعاملها مع الأزمات الإقليمية، وعلى سبيل المثال، في الأزمة السورية، أكدت تركيا على استراتيجيتها إلى جانب دعم الثورة والتركيز على مصالحها الوطنية، مثل إعادة اللاجئين ومنع تشكيل كيان إرهابي على حدودها، وذلك بعد توقيع اتفاقيات مع روسيا، مثل اتفاق وقف إطلاق النار في عام 2020.
وبعد سقوط نظام الأسد المخلوع في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، برزت تركيا كواحدة من أبرز الأطراف الفاعلة في تشكيل مستقبل سوريا الجديدة، حيث أظهرت تحركاتها السياسية والعسكرية طموحًا لتعزيز دورها من خلال تحالف استراتيجي مع الإدارة السورية الجديدة.
وقد تجلى هذا التحالف في زيارات رفيعة المستوى، مثل تلك التي قام بها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ورئيس الاستخبارات إبراهيم كالن إلى دمشق، ما عكس رغبة أنقرة في دعم الحكومة السورية الجديدة عبر تقديم تدريب عسكري ودعم اقتصادي.
كما أعربت تركيا عن استعدادها لتسهيل عودة اللاجئين السوريين، وهو ملف حيوي لكلا الطرفين، حيث تستضيف تركيا أكثر من 3 ملايين لاجئ.
ومع ذلك، يواجه هذا التحالف تحديات، خاصة فيما يتعلق بالتوترات مع تنظيم PKK/PYD الإرهابي، الذي تعتبره تركيا تهديدًا أمنيًا، فضلاً عن مخاوف دول إقليمية أخرى من النفوذ التركي المتزايد.
ويُنظر إلى هذا التحالف على أنه خطوة لتعزيز الاستقرار في سوريا، لكنه يتطلب توازنًا دقيقًا لتجنب الصدام مع القوى الدولية والإقليمية الأخرى.
وقال إبراهيم خولاني، الباحث المساعد في مركز حرمون للدراسات لـ “وكالة أنباء تركيا”، إنه “مع سقوط نظام الأسد وتغير المشهد السوري، نجد أن تركيا تتعامل مع الملف السوري من موقع مختلف عمّا كانت عليه في السنوات السابقة، فهي تدير سياساتها تجاه سوريا الآن وفق محددات وقواعد أكثر تماسكًا، وعلى رأس ذلك أن التعاون الفعلي بين الدولتين يتطلب أن يُبنى على اتفاقيات رسمية تحدد المصالح المشتركة بين الطرفين بشكل أكثر وضوحًا، فتركيا ترى أن الفرصة الآن تسمح لأن يكون شمال شرقي سوريا أكثر استقرارًا وتوازنًا بما يحقق أمنها القومي، وأعتقد أنها حذرة من الانخراط العاطفي.. لذلك، فهي لن تتحرك وفق ما قد يسمى بالنيات الحسنة فحسب، بل ضمن تحالفات رسمية تشبه ما فعلته في ليبيا أو أذربيجان أو شمالي العراق”.
وتابع “وفي ما يخص العلاقة بين تركيا مع الإدارة الجديدة في دمشق بعد سقوط النظام، فإنها تفتح الباب للتعاون بشكل يعزز الاستقرار في البلاد لأنه مصلحة مشتركة، ويحترم مصالح تركيا الأمنية ولا سيما في المناطق الحدودية”.
وختم قائلا، إن “تركيا الآن تبحث عن علاقة تعاقدية واضحة لتسهم في استقرار سوريا، وتمنع عودة الفوضى وتحمي أمنها القومي”.
وفي السياق، تتجنب تركيا التورط في نزاعات لا تخدم مصالحها الاستراتيجية أو لا تستند إلى أطر قانونية.
وقال المختص بالعلاقات الدولية، المحلل السياسي محمود علوش لـ “وكالة أنباء تركيا”، إن “تركيا تقدم في الحقيقة نموذجًا لدولة تبني تحالفات استراتيجية وثيقة مع حلفائها، تحمل قيمة كبيرة لهم. وقد أثبتت عبر السنين والعقود أنها وقفت إلى جانب حلفائها في أحلك الظروف، وقدمت دعمًا سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا دون تردّد، رغم التكاليف الباهظة، ما يجعل العلاقة مع تركيا مصدرَ قيمة استراتيجية للعديد من الدول”.
وأضاف أن “استراتيجية تركيا تقوم على الشراكة مع الكيانات الرسمية والحكومات الشرعية، دون تدخل في الشؤون الداخلية، كما فعلت في ليبيا بالتعاون مع حكومة السراج، وكذلك في سوريا حيث تسعى اليوم لبناء شراكة قوية مع الحكومة القائمة”.
وتابع علوش “ولذلك، أصبح التحالف مع تركيا يحظى بأهمية متزايدة لدى العديد من الجهات الفاعلة ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل أيضًا على الصعيد الدولي، ففي جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، وحتى في أوروبا وإفريقيا، بدأت العديد من الدول تدرك أهمية تركيا كشريك استراتيجي. والسبب يعود إلى النهج التركي القائم على الاحترام المتبادل، ودعم الشرعيات، ما جعل تركيا دولة موثوقة ومؤثرة على الساحة الدولية”.
التأثير على العلاقات الدولية
سياسة تركيا القائمة على الاتفاقيات الرسمية عززت مكانتها كقوة إقليمية لا غنى عنها.
على سبيل المثال، استضافت تركيا مشاورات روسية – تركية حول الشرق الأوسط في عام 2025، ما يعكس دورها المتنامي كوسيط دولي، كما أن تعاونها مع دول مثل إيطاليا والجزائر غرب المتوسط أثار قلق بعض القوى الغربية، مما يشير إلى قدرتها على تشكيل تحالفات جديدة تتحدى النفوذ التقليدي.
في المقابل، يعزز التزام تركيا بالتحالفات الرسمية الثقة بينها وبين حلفائها. على سبيل المثال، دعمها لأذربيجان خلال حرب تحرير إقليم قره باغ، والذي استند إلى اتفاقيات تعاون استراتيجي، عزز من صورتها كحليف موثوق.
وقال الكاتب والمحلل السياسي، إبراهيم قيسون لـ “وكالة أنباء تركيا”، إن “تركيا أثبتت من خلال مواقفها خلال السنوات الماضية أنها تلتزم باتفاقياتها مع الدولة كما شهدنا خلال الأزمة بين قطر وباقي دول مجلس التعاون وكذلك خلال حرب أذربيجان وغيرها، لكن لا نعلم ما هي المطالب التركية لتوقيع اتفاقيات مع سوريا وهل يمكن للقيادة السورية القبول بها في ظل التوازنات الإقليمية بحيث لا تجلب لها العداء مع دول ٱخرى، وما مدى قدرة تركيا على الوقوف في وجه التصعيد الإسرائيلي المتزايد. من جانب ٱخر هل يمكن لتركيا أن تبيع سوريا الأسلحة المناسبة التي تحتاجها لا سيما تلك المحظورة بشكل غير رسمي كأنظمة الدفاع الجوي والأسلحة بعيدة المدى”.
وتُظهر تركيا من خلال سياستها الخارجية التزامًا واضحًا بمبدأ التعاون الاستراتيجي القائم على الاتفاقيات الرسمية.
وهذا النهج يتيح لها بناء تحالفات قوية مع دول متنوعة، مع تجنب التدخل في شؤون الآخرين دون أطر قانونية. ورغم التحديات التي تواجهها، مثل التوترات مع بعض الحلفاء الغربيين أو الانتقادات المتعلقة بتوسع نفوذها، فإن تركيا تواصل تعزيز مكانتها كقوة إقليمية ودولية من خلال دبلوماسية متوازنة وبراغماتية.
وفي نهاية المطاف، من يتحالف مع تركيا وفق اتفاقيات رسمية سيجدها حليفًا قويًا وملتزمًا في كل الأوقات.