
على الرغم من الخطاب العدائي الحاد الذي يتبادله النظام الإيراني والاحتلال الإسرائيلي، والتراشق الإعلامي الذي يصور الطرفين كأعداء لدودين، فإن التاريخ يكشف عن جانب آخر من العلاقة بينهما، تتسم بالتعاون الخفي والمصالح المشتركة التي تجاوزت في كثير من الأحيان الحدود الجغرافية والإيديولوجية.
فمنذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979 على أنقاض نظام الشاه محمد رضا بهلوي، بدا أن العلاقات بين إيران والاحتلال الإسرائيلي تقوم على ازدواجية واضحة: عداء ظاهري يخفي وراءه تعاونًا عسكريًا واقتصاديًا استمر عبر عقود.
وقبل سقوط الشاه، كانت العلاقات بين إيران والاحتلال الإسرائيلي وثيقة بشكل علني، حيث قدم الاحتلال الإسرائيلي أسلحة متطورة ودعماً استخباراتياً لنظام الشاه عبر تعاون بين الموساد وجهاز “السافاك” الإيراني، إلى جانب تسهيل تصدير النفط الإيراني عبر البحر الأحمر لتجاوز الحظر العربي، وفق العديد من المصادر التاريخية.
لكن مع وصول الخميني إلى السلطة، تحولت العلاقة إلى عداء معلن، رغم استمرار التعاون في الخفاء.
وفي هذا السياق، كشف الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، الذي حظي بدعم المرشد الأعلى خلال فترة رئاسته (2005-2013)، عن مفارقة صادمة، حيث أشار إلى أن “مسؤول مكافحة التجسس الإسرائيلي في جهاز الاستخبارات الإيراني كان في الواقع عميلاً لإسرائيل”، ما يعكس عمق التغلغل والتنسيق بين الطرفين.
ومع اندلاع الحرب بين إيران والعراق عام 1980، بدأت تتضح معالم التعاون بين الاحتلال الإسرائيلي وإيران بشكل أكبر.
ويرى الباحثون أن واشنطن والاحتلال الإسرائيلي نسقتا سوياً لإدارة هذا الصراع بما يخدم مصالحهما، حيث لعبت صفقات الأسلحة دوراً محورياً في استمرار الحرب.
وفي هذا الإطار، قال طاهر أبو نضال الأحوازي، عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية الشعبية الأحوازية لـ”وكالة أنباء تركيا” إنه “لا يمكن إنكار التعاون السري والمعلن بين إسرائيل والنظام الإيراني، سواء في عهد الشاه أو حتى في ظل الجمهورية الإسلامية، وقد وثقت ذلك تقارير دولية وصحف عالمية كشفت عن صفقات سلاح وتعاون استخباراتي”.
ومن أبرز تجليات هذا التعاون كانت في فضيحة “إيران-كونترا (1985-1987)”، حيث باع الاحتلال الإسرائيلي أسلحة أمريكية لإيران عبر وسطاء، مقابل الإفراج عن رهائن أمريكيين في لبنان، واستخدمت الأرباح لدعم متمردي “الكونترا” في نيكاراغوا.
هذه الصفقة، التي كشفتها مجلة “الشراع” اللبنانية عام 1986، أثبتت أن المصالح الاستراتيجية تتجاوز الخطاب العدائي، وأن الاحتلال الإسرائيلي كان يسعى لإطالة أمد الحرب لإضعاف كل من العراق وإيران، وهو ما أكده الكاتب السياسي مالك عبيد قائلاً لـ “وكالة أنباء تركيا”، “برز الدعم الإسرائيلي العسكري لإيران أثناء الحرب العراقية-الإيرانية بصفقة إيران-كونترا، وكان هدف إسرائيل إضعاف الدولتين، مع خشية أكبر من العراق لقربه الجغرافي وعقيدته القومية القوية”.
ولم يقتصر دور الاحتلال الإسرائيلي على توريد الأسلحة إلى إيران، بل تعداه إلى استغلال الحرب لتحقيق مكاسب استراتيجية واقتصادية، فقد سعى الاحتلال الإسرائيلي إلى تقليص القدرات العسكرية والاقتصادية للعراق، وهو ما تجلى في ضربها لمفاعل “أوزيراك” النووي العراقي عام 1981، مستغلة انشغال بغداد بالحرب مع إيران.
وفي هذا الجانب أضاف عبيد في حديثه قائلا “استغلت إسرائيل انشغال العراق بالحرب لتقضي على حلمه النووي، مما قلّم أظافر القوة العراقية وساهم في استمرار إيران في الحرب حتى أنهكت الدولتين”.
اقتصادياً، وجد الاحتلال الإسرائيلي في إيران سوقاً مثالية لتصريف مخزونه العسكري المتهالك، ما أنعش خزينته ووفر فرص عمل لليهود، فضلاً عن الحصول على مساعدات أمريكية لتحديث ترسانته، كما استهدف الاحتلال الإسرائيلي من خلال هذا الدعم تسهيل هجرة اليهود الإيرانيين، خاصة الفنيين، ما أضعف الاقتصاد الإيراني بسبب خروج رؤوس الأموال والكفاءات.
وخدمت الحرب بين العراق وإيران مصالح الاحتلال الإسرائيلي بشكل كبير، حيث أحدثت شرخاً في الصف العربي، وانقسمت الدول العربية بين مؤيد للعراق كمصر والسعودية، ومؤيد لإيران كسوريا وليبيا.
هذا الانقسام صرف أنظار العرب عن الاحتلال الإسرائيلي كعدو أساسي، وأخرج العراق من دوره كقوة احتياطية وفي عام 1982، استغل الاحتلال الإسرائيلي هذا الوضع لاجتياح لبنان، ما أضعف سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وفي هذه النقطة، قال طاهر الأحوازي، إن “الخاسر الأكبر من هذا التعاون الخفي بين إيران والاحتلال الإسرائيلي هو الدول العربية والإسلامية، خاصة في الخليج والعراق وسوريا ولبنان، حيث استفادت إيران وإسرائيل من تدمير العراق وتقاسم النفوذ بعد احتلاله عام 2003، وتحويل سوريا إلى ساحة صراع”.
واستمرت الحرب حتى عام 1988، لكن زيارة وفد أمريكي إسرائيلي إلى طهران حينها، والذي رصدته السفارة السورية وكشفت عنه وسائل الإعلام، عجلت بوقف إطلاق النار بين إيران والعراق، وتوقفت إمدادات الأسلحة من الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة إلى إيران بعد فضيحة “إيران- كونترا”، ما أجبر إيران على قبول الهدنة.
ويؤكد المحللون أن هذا الدعم كان العامل الرئيسي باستمرار إيران في الحرب، حيث استفاد الاحتلال الإسرائيلي من كل دولار دفعه النظام الإيراني لتطوير صناعتها العسكرية وبناء المستوطنات.
وحتى بعد الحرب، استمر التعاون الخفي عبر قنوات غير مباشرة، ففي التسعينيات، اشترت إيران قطع غيار لطائراتها من السوق السوداء، بعضها من مصادر إسرائيلية، وفي سوريا (2011-2020)، تجنبت إيران الرد العسكري المباشر على الغارات الإسرائيلية ضد سوريا، ما يشير إلى تفاهمات ضمنية، وتؤكد تقارير غربية حديثة وجود قنوات تواصل سرية بين الطرفين حول ملفات مثل النووي والنفط.